حسن أبو عيد رحل بصمت
حالة فريدة من دماثة الاخلاق، وحسن المعشر، وطيب الكلام، يأسرك بلطفه، ويريحك في طريقته وهو يتحدث اليك، فلا تمل من الاستماع اليه، وهو يتدفق في الكلام كأنما يغرف من بحر، لا يتلعثم ولا يحتاج منك ان تستفسر عن كلمة او عبارة مما يقول، لم اسمعه يوما يرفع صوته او يصرخ او يحتد في خطابه، بل يرسله هادئا مترسلا، كأن التوتر لا يجد سبيلا الى نفسه ابدا، وجل ما يقوله اذا شعر بالضيق او الغضب ان يحوقل ويحتسب، وتلك بلا شك من أخلاق العلماء الحقيقيين.
وهو في علمه الذي امتاز به في اصول الفقه الذي حمل شهادته العالمية من الازهر بعد شهادته الجامعية الاولى التي حصل عليها من عاصمة الرشيد وبلد العلماء، ودار به في آفاق الدنيا من الجامعة الاردنية الى امريكا عميدا للمعهد العالمي للدراسات الاسلامية، ثم الى الجامعة الاسلامية في غزة عميدا لكلية الشريعة والقانون ورئيسا للجامعة الى جامعة النجاح الوطنية حيث درس مادة الاحوال الشخصية والميراث مرورا بجامعة العلوم الاسلامية وجامعة الزرقاء الخاصة وكلية الشرطة الملكية، ثم مديرا لاوقاف عمان، مرورا بالمساجد والجمعيات والاجتماعات العديدة التي لا تحصى. كان الدكتور ابو اسامة ناشطا اسلاميا وهو من ابناء الحركة الاسلامية التي اتاحت له التواصل مع اعداد كبيرة من الدعاة والشباب الذين تتلمذوا على علمه الوفير، ولم يكن يبخل بعلمه على سائله، بل كان يتيحه لطالبه بتواضع جم، ورغبة حقيقية في ايصاله لمبتغاه، ولم يكن الفقيد ممن يطلبون الدنيا بعلمه، فلم اسجل عليه موقفا اعلمه بهذا الاتجاه، وكان الفقيد رفيقا في كلامه وفي سؤاله، مؤدبا، غاية في الادب، لا يحرج أحدا ولا يتسبب بالضيق لمن يتعامل معه، ولهذا قلما كنت تجد له خصوما او مبغضين، ولعلهما خصلتا الرفق والاناة اللتان كان يتمتع بهما على الدوام.
غادرنا بالامس بعد ان عانى طويلا من مرضه الذي ألمّ به، وكلما كان يشعر بالتحسن كان يعود الى عمله ولم يستسلم طوال تلك الفترة التي كنا نراه فيها معتصما بايمانه، متشبثا بصبره، يحمل بين جنبيه هم الاسلام والامة، ويستفسر باهتمام عن أحوال دعوته وأحوال المسلمين، وينصح ويوجه ويفيد، رغم شعورنا بانه كان يعاني ويتصبر ويحتمل، ويتجلد لما اصابه.
غادرنا ابن الرملة الذي كان يتذكر سقوطها بيد الصهاينة، فقد كان يومها ابن ثمان سنوات، يتذكر فلسطين ونكبتها، ويتذكر اللجوء وقسوته، وكحال كثير من اللاجئين المكافحين شق طريقه ببسالة، وحصل على تعليم متقدم، ولم ينس فلسطين لحظة، فقد عاد اليها معلما ومربيا وموجها في اكثر من فرصة اتيحت له، في غزة ونابلس، وها هو اليوم ينهي رحلة اللجوء والكفاح بعد ان ترك بصمة العلماء العاملين الصادقين في كل مكان حل فيه وارتحل منه، نحسبه صالحا ولا نزكيه على الله.
رحمة الله على روحك الطاهرة، وجعلك الله في مقام خاصة العلماء الصالحين، وجعل منزلك في عليين، وابدلك من هذه الدنيا جنة عرضها السموات والارض، وعوضنا الله منك خيرا، فقلما يجود الزمان بالعلماء العاملين، ونسأل الله ان يلحقنا بك على طريق رسوله علما وعملا وجهادا، يا من غادرتنا احوج ما نكون لامثالك من المتواضعين رغم علو مكانتهم، ومن ذوي الاخلاق العالية رغم ندرتهم، فالسلام عليك والعزاء لاسرتك وابنائك الطيبين الذين ورثوا عنك الكثير من اخلاق الاسلام العظيم.
رحلت بصمت، ومضيت بتواضع، وخلفت في قلوبنا الما وحزنا، لا يخففه الا ظننا الحسن بالله بانك من أهل الجنة ان شاء الله، نحسبك كذلك والله حسيبك والسلام عليك في الصالحين.