مرة أخرى.. عن نظام الصوت الواحد وحقيقته
لا يستطيع الباحث في الفكر الدستوري والسياسي العثور على نظام الصوت الواحد الذي أخذ به الأردن، أو أي تطبيق له، في أي دولة من الديمقراطيات المعاصرة. فهذا النظام تم ابتداعه ليطبق في أربع جزر بركانية صغيرة في جنوب المحيط الهادئ، تخضع للتاج البريطاني من خلال المندوب السامي المقيم في نيوزيلندا. ومساحة هذه الجزر مجتمعة 18 ميلا مربعا، أكبرها جزيرة بيتكيرن (Pitcairn) التي أصبحت الجزر الأربع تحمل اسمها. وتعتبر "بيتكيرن" من أجمل المناطق السياحية. وقررت بريطانيا إقامة حكم ديمقراطي في الجزر، يتبع التاج البريطاني، بموجب مرسوم صدر العام 1964، يأخذ بالنظام البرلماني، وكان عدد السكان حينها 300 شخص، فيهم أربع أسر رئيسة.
ويقوم هذا النظام على وجود مجلس تشريعي منتخب، يتكون من 10 أعضاء، يختارون رئيس البلدية (Mayor) كسلطة حكم. وتم وضع نظام انتخابي لاختيار النواب العشرة الذين تتشكل منهم السلطة التشريعية، على أساس جعل دولة الـ300 شخص عندما صدر المرسوم العام 1964، دائرة انتخابية واحدة، وأن يكون من حق كل من تتوافر فيه شروط الترشح أن يرشح نفسه.
أما الناخب، فليس له الحق إلا في انتخاب مرشح واحد من بين المرشحين للمقاعد العشرة، ويكون الفائزون في عضوية المجلس، هم العشرة الأعلى أصواتاً من بين المرشحين. وهكذا تم زرع التنافس والانقسام والفرقة بين الأسر الأربع، حيث أصبح كل منها يطمح بنصيب أكبر في المجلس. ثم امتد التنافس والانقسام إلى فروع الأسرة الواحدة، وغدا كل تجمع أو مجموعة، سواء أسرة أو فرع من أسرة، بحاجة للمندوب السامي الذي يمثل الملكة، فتلجأ المجموعة إليه لنصرتها على غيرها! وبهذا، تم تعميد مبدأ "فرق بين الناس لتسود عليهم"، ما أدى إلى أن يقاطع الانتخابات من يفقد الأمل فيها. وقاد استضعاف البعض للبعض الآخر، إلى قهر وشعور بالظلم، استتبع النزوح التدريجي للسكان، حتى انخفض عدد من يعيش في الجزيرة إلى حد كبير.
هذا هو نظام الصوت الواحد الذي أخذنا به في الأردن، وجعلنا بموجبه للناخب في الدائرة الانتخابية اختيار مرشح واحد من بين المرشحين لمقاعد الدائرة، مهما كان عدد المقاعد المخصصة لها. وهو نظام كان مجهول الوجود والمضمون قبل أن نأخذ به. فمن يا ترى اقترحه حتى تقوم الحكومة في العام 1993 بحل مجلس النواب الحادي عشر، الذي جاء بانتخابات نزيهة، قبل نهاية مدته الدستورية، ثم تبادر إلى إصدار قانون مؤقت للصوت الواحد، تلغي بموجبه قانون الصوت المتعدد، وتستند في ذلك إلى غياب المجلس الذي حلته بنفسها، وتقرر أن هناك حالة ضرورة لا تحتمل التأخير تستوجب إصدار القانون المؤقت رغم عدم وجودها؟ وليسود بعد ذلك نظام الصوت الواحد الذي فكك مجتمعنا إلى جزر مجتمعية على مقاس ما يجري في جزر البيتكيرن وأسرها الأربع!
لا نظن أن أي واحد من أعضاء الحكومة الأردنية التي قررت علينا نظام الصوت الواحد، قد سمعوا باسم جزر البيتكيرن، كما أن من تخصص من أهل القانون في تفصيل الفتاوى المبيحة، ليس فيهم، كما نعلم بيقين، من يمكّنه تأهيله المعرفي التوصل إلى جزر البيتكيرن ليستورد منها للأردن نظاماً انتخابياً ينطوي على أنجع الوسائل لكيفية تمزيق المجتمع الأردني إلى عشائر وعوائل، ثم إلى فروع داخل العوائل، تتنافس على مقعد الصوت الواحد، ليخرج بعد ذلك مجلس نيابي لا رابط بين أعضائه من برامج وطروحات، ويظل كل واحد منهم أقلية لا وزن له. علماً أنه إذا كان قد سيطر على الذهن الرسمي عند إصدار نظام الصوت الواحد، تمرير اتفاقية وادي عربة، وتحجيم الإخوان المسلمين، من دون التفات لتبعاته، فإن تلك المرحلة قد انتهت.
ولذلك، فإنه بمعزل عن البحث في مدى سلامة القرار الذي فرض نظام الصوت الواحد عند اتخاذه قبل أكثر من عشرين سنة، دعونا ننظر إلى الآثار المجتمعية والسياسية التي رسخها في واقعنا، ونجعلها عبرة، في ضوء الكيفية التي كانت قد فصّلت فيها دول العالم نظمها الانتخابية مبكراً، من أجل الوصول إلى تداول السلطة، في ديمقراطيات سليمة العناصر والمعطيات.
ابتداءً، فإنه ما دام أن هناك تفكيرا لدى الحكومة بإرسال قانون جديد للانتخاب إلى سلطة التشريع لإصداره، فمن الضروري أن تعلم حكومتنا أن هناك من وضع لوطننا نظاماً انتخابياً مُسوّقاً عما يجري في دويلة مساحتها 18 ميلا مربعا، عدد سكانها أقل من حارة صغيرة في قرية أردنية يتحدث باسمها أحد المخاتير، واعتبره نموذجاً للاقتداء به في حكم دولة تقرب مساحتها من 93 ألف كيلو متر مربع، يعيش فيها أكثر من ستة ملايين مواطن؛ فترتب عليه تفتيت المجتمع الأردني بذات الأسلوب الذي أكد نجاحه في تفتيت سكان جزر البيتكيرن!
ولعله من المحزن حقاً، أنه رغم مطالب المسيرات والتجمعات الشعبية والنخب السياسية، وحتى اللجان الملكية بالتخلص من هذا النظام، فإن الكثيرين ممن لا يزالون يطفون على سطح الحياة السياسية في الأردن، قد أصبح نظام الصوت الواحد عندهم مقدساً، ليحكم الواقع الأردني حتى الآن، من دون أن يأبهوا بسلبيات آثاره. وإذا كان هذا النظام قد شهد تطبيقاً حديثاً في مكان آخر، فمثل هذا التطبيق اقتدى بالأردن، ونعتقد أنه وصل عن طريق النصاح الأميركيين إلى حامد كرزاي في أفغانستان، ليتبناه ويفرض بركاته على وطنه!
إن من قدم لنا نصيحة نظام الصوت الواحد، هو عدو للشعب الأردني والدولة الأردنية، بسبب النتائج التي قاد إليها؛ من تمزيق للحمة المجتمع، وتكوين مجالس نواب تمثل منابت وأصول ومناطق ومصالح، وليس شعباً. نقول هذا، لأن من قدم لنا نصيحة الصوت الواحد يعلم جيداً أن قوانين الانتخاب في دول الديمقراطيات الأوروبيّة، كانت قد وُضعت في مراحلها الأولى، لتصهر أبناء المجتمع المتعددي الانتماءات العائلية والفئوية والقومية والطبقية، في بوتقة الدولة الوطنية والقومية، والأخذ بيد شعوبها في تكوين أحزاب تنمو بشكل صحي، لتبلغ سن الرشد، وتتناوب على السلطة، وتجسد إرادة تلك الشعوب، حتى أصبحت دولها توصف بالديمقراطيات المعاصرة التي نعرفها اليوم.
فقد كانت قوانين الانتخاب في الديمقراطيات التي أصبحنا نقول عنها معاصرة، تأخذ في مراحلها الأولى، بتخصيص مقاعد للدوائر الانتخابية يتفاوت عددها تبعاً لمساحة الدائرة وسكانها، وكان الناخب يختار من المرشحين بعدد المقاعد المخصصة لدائرته، وفي بعض الدول أقل بقليل، أي إن القانون كان يأخذ بنظام "التصويت المتعدد" (Plurality Block Voting). وأقد دى هذا النظام إلى تمكين الأحزاب من النمو، والمساهمة في تحقق انصهار الناس في مجتمع الدولة، ليحل الانتماء لهذه الدولة مكان الانتماءات الفرعية. واستمرت فترة الصهر المجتمعي والنمو الحزبي، حتى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وعندما سادت لدى الشعوب ثقافة التصويت للأحزاب تبعاً للقناعة ببرامجها، واستحوذت الأحزاب على المقاعد النيابية، لم يعد للنائب الفرد الذي لا ينتمي لحزب، أي دور أو فاعلية أو قدرة تأثيرية في المجلس. ومن ثم، لجأت هذه الدول إلى الأخذ بنظام الدوائر الضيقة والصغيرة، وتخصيص مقعد نيابي واحد لها، ونشأ بذلك نظام "صوت واحد للشخص الواحد" (One man one vote)، من أجل اختيار مرشح واحد لمقعد الدائرة الواحد. وفي بعض الدول، فقد تبيّن أن الحاجة ما تزال قائمة لنظام الصوت المتعدد، فأبقت عليه. وهذا التطور حدث على سبيل المثال، في نيوزيلندا، حيث استمر نظام الصوت المتعدد في القانون حتى العام 1889، وفي بلجيكا حتى العام 1919، وفي بريطانيا استمر نظام الصوت المتعدد منذ صدور أول قانون انتخاب العام 1432 وحتى العام 1948، وفي إيرلندا حتى العام 1968، وفي استراليا حتى العام 1948، وفي النرويج حتى العام 1905، وفي فرنسا حتى العام 1958، وفي اليابان حتى العام 1898. وبعد هذه التواريخ، تم تقسيم الدولة إلى دوائر صغيرة لكل منها مقعد برلماني واحد، وعلى الناخب أن يصوت لمرشح لهذا المقعد على ما ذكرنا.
من جهة أخرى، فإن العديد من دول الكتلة الشرقية التي خرجت من عباءة الحزب الواحد أيام الاتحاد السوفيتي، أخذت بنظام الصوت المتعدد للناخب، من أجل تسهيل النمو الحزبي، والتمكين الديمقراطي عن طريق تداول السلطة بين الأحزاب. وحتى في الولايات المتحدة الأميركية، فإن عدداً من ولاياتها ما يزال يأخذ بنظام الصوت المتعدد في انتخابات مجالسها النيابية، مثل ولايات ميريلاند، ونيوهامبشاير، وفيرمونت. بل إن بلجيكا التي اقتبسنا دستورنا للعام 1952 من دستورها للعام 1921، كانت حتى العام 1919، تعطى للمواطن الذي يحمل مؤهلاً يؤكد إنهاءه للتعليم المدرسي، حقاً في انتخاب عدد من المرشحين في دائرته الانتخابية، أكثر ممن لا يحمل مثل هذا المؤهل، وذلك ثقة من الدولة بحسن اختيار من تعتبره متعلماً (في ذلك الوقت)، لنوعية من المرشحين الأكفاء، للارتقاء بسوية المجلس المنتخب.
ولعل الطريق التي سلكتها إسبانيا في هذا المجال تعبر عن عمق الوعي والإرادة السياسيين في تسهيل نمو الأحزاب وتحقيق استكمال سريع لمتطلبات الملكية الدستورية. فهذه الدولة التي خرجت من نظام الجنرال فرانكو وحكم الفرد، وأصدرت العام 1978 دستوراً برلمانياً يأخذ بالملكية الدستورية كالأردن، سارت حتى الآن، على طريق الصوت المتعدد والدوائر الواسعة، من أجل تمكين الأحزاب من النمو والمساهمة في صهر مجتمعي للانتماءات المختلفة؛ إذ في انتخابات مجلس الشيوخ، فإنه في الدائرة التي لها أربعة مقاعد، يحق للناخب أن يختار ثلاثة مرشحين لعضوية المجلس.
وفي بريطانيا التي أنشأت دوائر انتخابية صغيرة لكل منها مقعد واحد، وصل فيها التطور الآن إلى الحد الذي جعل القانون يشترط في المرشح للانتخاب أن يكون منتمياً لحزب له برنامج سياسي، وأباحت تشكيل الأحزاب حتى من شخص واحد، وتطلبت، لغايات تنظيمية إدارية، أن يتم تسجيل الحزب في سجل لدى مراقب الشركات، خاص بالأحزاب السياسية، حتى بلغ عددها في الوقت الحاضر أكثر من 500 حزب سياسي.
هكذا، فإن النظم الانتخابية التي كانت قد استخدمت لتطوير النظم السياسية والدستورية في دول العالم، تكشف مدى شذوذ النتائج التي قاد إليها أخذنا بنظام الصوت الواحد.
نعم، لقد كان من سوّق لنا نظام الصوت الواحد يعلم بكل ما سبق، ويدرك الكيفية التي أخذت بها دول أوروبا والعالم الديمقراطي في نظمها الانتخابية، من أجل تمكين الأحزاب السياسية فيها من النمو، وصهر الانتماءات الفرعية في بوتقة دولة تكون لها الأولوية في انتماء مواطنها على أي انتماءات أخرى. لكن من قاموا بتسويق نظام الصوت الواحد لنا، كانوا حريصين على عدم نمو أحزاب عندنا تتداول السلطة، وعلى العودة إلى الانتماءات الفرعية على حساب الانتماء للدولة ومجتمعها.
ويكفي هنا أن نقول، إن الدولة الأردنية التي تشكلت عند قيامها قبل تسعين سنة من بدوٍ وحضر، وقبائل وعشائر وعوائل، وشركس وشيشان ودروز، وشوام وعراقيين، سارت على طريق صهر الجميع في مجتمع الدولة. وعندما احتل الصهاينة جزءاً من أرض فلسطين العام 1948، ونزح أبناؤها إلى الأردن، تمكنت الدولة، في ظل دستور وحدة الضفتين للعام 1952، بمساعدة الأحزاب السياسية، من صهر جميع الانتماءات في انتماء واحد للدولة. وحتى العام 1957، كانت كل الانتماءات الفرعية تكاد تكون قد انحنت لصالح الأحزاب ومجتمع الدولة. لكن منذ حل الأحزاب في ذلك العام، والدخول في نفق الأحكام العرفية، عادت الانتماءات الفرعية إلى أصول ومنابت، بحثاً عن الحماية والاطمئنان، واعتبار النقابات رئة وحيدة للتنفس السياسي. ومع نشوء منظمة التحرير الفلسطينية من أجل الاستقطاب النضالي للشعب الفلسطيني، تنوعت دوافع الانتماء إليها، وأدى غياب الأحزاب التي تَجُبّ الانتماءات الفرعية، وتفاقم حكم الأشخاص بدلاً من حكم القانون، إلى تمزق مجتمعي تدريجي تحول إلى إقليمي خطير التبعات.
وجاءت انتخابات العام 1989 والإعلان عن الدخول إلى عهد ديمقراطي، وعاد الأمل من جديد بنشوء أحزاب تساعد الدولة على إحلال الانتماء لها وفق برامج وطروحات مكان الانتماءات الفرعية، والارتقاء بنوعية المجالس النيابية والحكومات، للوصول إلى ديمقراطية حقيقية، يسود فيها حكم القانون بدلاً من حكم الأشخاص. ولم يكن الأردنيون يعلمون، أن وصفة التمزيق المجتمعي والتراجع السياسي، سيتم إحضارها لهم من جزيرة البيتكيرن في صورة نظام الصوت الواحد العام 1993، وأنه حتى بعد مضي أكثر من عشرين سنة على تطبيق هذا النظام عندنا، وما قاد إليه من آثام بحق الأردنيين، ما يزال هناك من يتاجر به ويدافع عنه.
وبعد، فإن المقارنة بين النظم الانتخابية التي كانت قد استخدمتها دول العالم، لصهر الانتماءات الفرعية في مجتمعاتها، وتطوير أنظمتها السياسية والدستورية، وبين ما يجري عندنا، يؤكد مدى خطيئة سيرنا عكس متطلبات التطور والإصلاح بموجب نظام الصوت الواحد، ودفن الأمل بديمقراطية حقيقية طيلة وجوده.
والمحصلة لما سبق، أن تغيير قانون الصوت الواحد والعودة إلى قانون الصوت المتعدد الذي أُلغي العام 1993، أصبح ضرورة تستوجبها إعادة لحمة المجتمع، والتمكين من النمو الحزبي، ووصول كفاءات وأصحاب طروحات إلى المجلس النيابي، وتشكيل حكومات برلمانية، وقيام ديمقراطية حقيقية.