"سطل" ماء بارد!
مثل كل الأشياء التي تنتقل بعدوى المشاهدة، ينتشر مؤخرا فايروس تحدي دلو الثلج والماء البارد، يتبارى فيه فنانون ورياضيون وسياسيون وصحفيون، إلى جانب أناس عاديين من غير المشاهير، يهدف إلى التضامن المعنوي مع مرضى التصلب الجانبي الضموري.
شخصيا وكغالبية متابعي هذه "اللسعة" الجديدة لا أعرف شيئا عن مرض التصلب الجانبي الضموري، غير أنه مرتبط بأحد أمراض الأعصاب الحركية، والذي غطت حملة دلو الماء المثلج على مساحته العادلة في التغطية والإعلام والتوعية، على الأقل من باب التعريف بالسبب الذي اخترعت لأجله فكرة سكب الماء البارد مع قطع الثلج فوق الرؤوس مباشرة، بالتوازي مع حملة جمع التبرعات النقدية لصالح المصابين بهذا المرض.
لذلك قرأت عن المرض وأعراضه في موسوعة الويكيبيديا. وما صدمني للوهلة الأولى أنه مرض قاتل! وهو وصف لم تعد تستخدمه تصنيفات أمراض أشد خطورة وفتكا بالبشرية، من وجهة نظر التاريخ والمعرفة والدعاية.
وكعادة متتبعي قشور الأخبار دون الولوج معرفيا بالتفاصيل العلمية، انتشرت وبشكل حثيث فيديوهات التحدي، التي تعيد وتكرر مشاهد سكب الماء المثلج على رؤوس شباب وصبايا عرب، يتحدون بعضهم بعضا في إعادة تدوير المشهد نفسه، بالطبع دون أن يتم الإشارة ولا لمعلومة عن المرض، ولا حتى الإعلان عن التبرع النقدي لصالح المرضى الذين وجدت الحملة لأجلهم. وهذا أمر اعتدنا على التعامل معه مؤخرا بعد أن سيطرت على الصورة العربية للأسف خاصية التقليد الأعمى، والانقياد شبه التام والمستسلم كليا لرسائل العالم الغربي الجاهزة وسهلة الاستعمال.
ومع ذلك فقد شاهدنا مشاهد مصورة عربية استفادت من روح الفكرة، وحاولت تطويعها لتتناسب مع الإشكال والهم العربي، الذي سيطرت عليه الأوضاع المأساوية في غزة، وما يمر به الغزيون من قتل ممنهج في كل لحظة هم فيها على قيد الوجود. هي فيديوهات جميلة ومعبرة على الرغم من كونها نسخة وليس ابتكارا، لكنني وحدت فيها ردا ذكيا على الشباب العرب المهووسين بالتجربة الغربية، والذين أسهموا من حيث لا يدرون بنشر فكرة التوعية الصحية، ولو سطحيا، لمرض التصلب الجانبي الضموري.
هذا الأمر إن دل على شيء فإنما يدل على ضعف في التركيز من قبلنا في كيفية ايصال الرسالة الإعلامية الجديدة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتي بإمكانها أن تصل لملايين البشر في دقائق. فعلى الرغم من شدة الوجع وحدة الألم، ومع أن القضايا العادلة تصل مباشرة لوجدان الإنسانية بدون رتوش أو تشويه، إذا ما تم ايصالها بالشكل الصحيح، لكننا للأسف لا نعرف كيف نسوق لها بطرق مختصرة وذكية، كما حصل مثلا مع تحدى دلو الماء.
الناس في عادتهم وكما هو معروف، يهربون من الأخبار السياسية ولا يكترثون لها، مفضلين عليها أخبار الرياضة والفضائح والأسواق. لهذا نجد أن المتعاطفين منهم مع القضايا العربية، عدد محدود إذا ما قيس الأمر على مستوى الحدث والأهمية. وللأسف هذا الأمر ينطبق على المتابعين العرب قبل الأجانب، إذا ما أخذنا الحرب على غزة مثلا، وقارننا شكل وحجم التضامن مع الشعب الفلسطيني في الشارع، ومؤسسات حقوق الإنسان. لهذا ودرءا للشبهات من قبل العرب المتحججين بقمع السلطات لوسائل تعاطفهم واحتجاجهم، كان من الطبيعي أن تنتشر حملات بسيطة وسهلة التناول، يقوم باستحداثها متضامنون عرب مع القضية الفلسطينية عموما، والحرب على غزة خصوصا. لكن الأمر لم يحدث، بل لم يتعد نسخ ونقل صور وأخبار عن مواقع إخبارية، يهرب منها الناس عموما، ولن يقوموا بالتعاطي معها في أوقات تسليتهم!
فنانون أردنيون وفلسطينيون سكبوا على رؤوسهم رمالا وحجارة صغيرة، في محاولة لنقل صورة الدمار الذي يعيشه الغزييون. ليس مطلوبا أكثر من التفكير لدقائق من أجل فكرة ألمعية توصل صور الموت والشتات، في غزة وسورية تحديدا، اللتين تعانيان فعلا من مرض التصلب الإنساني والضمور العاطفي، يتطلب "سطل" ماء مثلج يستيقظ على صدمته اللاذعة، ضمير ما.