مقال بعنوان : في رثاء الشيخ عقلة ابودلبوح


لا زلت اذكر اول لقاء جمعني به , وكان ذلك قبل اربعة عشر عاما , في منزله في مدينة المفرق التي احبها واحبته , حيث كنت بمعية ابنه , صديقي واخي سعادة الاستاذ عبد الرحمن ابودلبوح , وكان لقاءا عابقا بالحكمة , فالشيخ عقلة النواش صاحب حديث عذب , يزينه دائما بذكر الله , ويتخلله عبر وحكم . يتميز الشيخ بالتروي قبل اطلاق الاحكام , في اي قضية , هدفه رد الحقوق الى اصحابها باحقاق الحق .

لقد اخذت انطباعا كافيا عن شخصيته المتحضرة , فلم يكن يوما طرفا في صراع بغيض , بل انه شيخ عتيد من رموز الاردن ورعيله الاول , مشرع بابه للجميع , يحل قضايا الناس ومشاكلهم ويساعدهم , سواء كانوا من عشيرته وقبيلته ام من اطياف المجتمع الاردني الاخرى , فقلبه كما بيته يستقبل الضيف وصاحب الحاجة ومن اصابه حيف , وشعرت خلال مجالستي للشيخ واستماعي له , بانني اتجرع الحكمة من منبعها , فالمجالس .. مدارس كما يقال , وتكررت اللقاءات بعدها لتتكرس في ذهني ووجداني صورة الشيخ عقلة النواش ابودلبوح .. شيخ اردني عروبي مثقف واع , قوي الحجة والشكيمة , بأسه شديد , مضغته معدنها الاسلام , مناصر للحق بلا هوادة , يصلح ذات البين باسلوب فريد , بيته ديوان فكر وادب وكرم .

ان السر وراء محبة الناس للشيخ عقلة النواش ليس لكونه فقط عميد شيوخ قبيلة بني حسن , ولا لأنه قاض عشائري ذائع الصيت على مستوى الوطن , بل ان السر يكمن في طبيعة شخصيته المتسمة بالتقوى والورع , تلك الشخصية المتسامحة المتواضعة في غير لين ولا ضعف , وذكاء متقد خدمه لحل الكثير الكثير من الخلافات والقضايا العشائرية والاجتماعية , وارتكازه على ثقافته الاسلامية الخصبة وإعلائه لأهمية القيم في المجتمع , فبقي مناصرا للحق محبا للوطن , مربيا فاضلا اخرج للحياة نخبة من البنات والابناء الناجحين في حياتهم والمتميزين بسيرتهم العطرة واخلاقهم الحميدة ,

ان لرحيل الكبار وقعاً خاصاً في النفس , يستثير المشاعر والعواطف ويفتح الطريق امامك على نثر الحروف وفاءً للفقيد او تأثراً بالفاجعة او بكليهما , فكيف إذا كان الراحل بمكانة وبقامة فقيد الاردن الشيخ عقلة ابو دلبوح ، حيث تتشابك العواطف السامية مع المعاني النبيلة التي جبلت روح المرحوم , تلك العواطف التي تعرف جيدا شخصية الشيخ ابو ضيف الله , القادم من نبع الاصالة , مدفوعا بنخوة البداوة وشهامتها وصلابتها .

لقد تحمل المسؤولية مبكرا , فهب لخدمة اهله وقبيلته ووطنه شابا , ولوحظ حرصه على ان يكون بينهم ومعهم ولهم , متمسكا بدينه وقيم العروبة وتراث الآباء والأجداد , اضافة الى صفات عديدة غرسها فيه والده الشيخ نواش ابودلبوح , كل ذلك قد اثمر في شخصيته سجايا وخصال حميدة , لقد بقي هذا الشيخ العملاق ثابتاً على مواقفه، متمسكاً بمبادئه، يُحافظ على نزاهته حفاظه على شرفه؛ فلم يتزحزح عنها قيد أنملة.

جنازته مهيبة شهدها الالوف , وبيت العزاء أمه الاردنيون بمختلف مشاربهم , لا تسمع من كل من يعرف الشيخ الا الحديث عن مناقبه الحسنة , او قد يقص عليك احدهم كيف ساعده الشيخ في قضية صعبة , وسار معه للنهاية حتى انحلت عقدتها , وهناك ايضا العديد ممن يذكرون طيبة ونخوة الشيخ التي استمرت عبر ابنائه .

هناك من يرحل فتبكيه اسرته , وهناك من يرحل فيبكيه الاصدقاء , وانت ايها الشيخ يبكيك الوطن . رحمك الله ابا ضيف الله , وجعل قبرك روضة من رياض الجنة .