من غـزة وعنهاإبادة عرقية واجتثاث حضاري (4)
تحدثنا في المقال السابق عن الإصرار الإسرائيلي على قتل أطفال غزة، في إطار إستراتيجية صهيونية لمصادرة مستقبل أبناء فلسطين، باعتبار ان كل طفل فلسطيني يولد هو مشروع مقاوم وشهيد.. وفي أقل الأحوال هو جزء من القنبلة السكانية التي تخاف منها إسرائيل، خوفها من الصواريخ، ومن ثم فإن الطفل الفلسطيني يشكل مشكلة حقيقية تهدد الوجود، الإسرائيلي الهش أصلاً لذلك فإنها تسعى للتخلص منه.
وتزامنًا مع الإصرار الإسرائيلي على قتل أطفال فلسطين، جاء الإصرار الإسرائيلي أيضًا على هدم المؤسسات التعليمية، وهو إصرار يأتي أيضًا في إطار إستراتيجية صهيونية تسعى لتجهيل أبناء فلسطين، ومن خلفهم كل أبناء أمتهم، فالمدارس والمعاهد في فلسطين تخيف الإسرائيلي، لأنها تنير العقول وتصلب الإرادة؟ فكيف إذا انعكس العلم عملاً مقاومًا، كما جرى في غزة عندما سخر أبناؤهم إمكانياتهم القليلة، فصار لهم صواريخهم الخاصة التي أجبرت العدو على الاختباء تحت الأرض، وهي نفس الأرض التي صار يخرج من تحتها ثوار فلسطين ليدب الرعب في قلوب سكان المغتصبات من أرض فلسطين، كل ذلك بفضل العقول المستنيرة من أبناء غزة التي أنتجت صواريخًا، وحفرت أنفاقًا وأطلقت طائراتٍ بدون طيار، مما أثار رعب إسرائيل من نتاج مدارس غزة فأمطرتها بوابل من صواريخها ومدافعها، ولم يحم هذه المدارس علم الأمم المتحدة يرفرف فوق بعضها، فإسرائيل فوق الأمم المتحدة، التي صار أمينها العام بوقًا من أبواق إسرائيل.
ومثل إصرار إسرائيل على قتل أطفال غزة وهدم مدارسها، كان الإصرار الأكبر على هدم مساجد غزة، وهو إصرار يجسد حقيقة الصراع الدائر في فلسطين وحولها، باعتباره صراعًا حضاريًا مبنيًا على عقيدة دينية، فقد جاءت الحركة الصهيونية إلى فلسطين باعتبارها أرض الميعاد التي أقامت عليها إسرائيل.. التي يحكمها في حقيقة الأمر ومنذ ان قامت الحاخامات الذين يواصلون إصدار فتاويهم التي تبيح قتل الفلسطينيين وتدمير بيوتهم واحتلال أراضيهم، دون ان يتهمهم أحد بالتطرّف، أو التعصّب، أو الإرهاب، ودون ان ينادي أحد بفصل الدين عن الدولة في إسرائيل، التي لا يستطيع أحد ان ينكر حجم تحكم الحاخامات، ومعهم الأحزاب اليمينية وجلّها أحزاب توراتية في القرار السياسي وغير السياسي الإسرائيلي.
ولأن الصراع في فلسطين صراع حضاري مبني على عقيدة دينية، أصر اليهود على تقسيم الحرم الإبراهيمي في الخليل، ويصرون على هدم المسجد الأقصى في القدس الشريف، ليحل محله هيكل سليمان المزعوم.. «خاب فألهم وطاش سهمهم» كل ذلك بالتزامن مع الإصرار على إعلان إسرائيل دولة يهودية، وهذا يعني التطهير العرقي لفلسطين، وأحد أدواته قتل أطفال فلسطين.
وحتى تصبح إسرائيل دولة يهودية، فلا بد من ان يترافق التطهير العرقي مع اجتثاث كل المعالم والمعاني التي تكذب الادعاء الصهيوني بأن فلسطين أرض الميعاد، وان إسرائيل يهودية من هنا الإصرار على هدم المساجد، باعتبارها أهم رموز الوجود الحضاري غير اليهودي.. في فلسطين، وباعتبار وجود المآذن يتناقض مع يهودية الدولة. وكذلك الحال بالنسبة للكنائس التي لم تسلم هي الأخرى من أذى إسرائيل في إطار سعيها لتحقيق الاجتثاث الحضاري لكل ما يتناقض مع مقولة يهودية الدولة.
سبب آخر من أسباب الإصرار اليهودي على هدم مساجد غزة، هو ان هذه المساجد أحسنت أداء دورها الحضاري؛ فكانت منابر تعليم وتنوير ومحاضن مقاومة وبناء إرادة. لذلك لا غرابة في ان تكون غزة معقلاً رئيسًا من معاقل المقاومة، ولا غرابة في ان تتحول غزة إلى شوكة في خاصرة العدو الإسرائيلي، والى كرة ملتهبة في حضنه، ولا غرابة في ان تصمد غزة كل هذا الصمود الأسطوري أمام الحصار الذي طبقه عليها العالم كله، وان تصمد هذا الصمود الخرافي أمام آلة الحرب الإسرائيلية المجرمة، فقد اعتصمت غزة بالإرادة التي بنتها مساجدها التي تغيظ العدو. لذلك، فانه يصرّ على هدم مبانيها، لكنه ظل وسيظل عاجزًا عن هدم معانيها التي ستحسم الصراع الحضاري لمصلحة مساجد غزة.
Bilal.tall@yahoo.com