العراق و«لحظة التحوّل»
ما الذي حصل في العراق؟ ... كيف أمكن تحقيق "الاختراق” بين عشية وضحاها؟ ... كيف انتهى المالكي في لمحة بصر، ومن أين جاءوا بحيدر العبادي؟ ... هل هي تسوية عراقية (صنع في العراق)، أم نحن أمام صفقة إقليمية؟ ... في حالة الصفقة، من هي أطرافها، وهل يمكن تعميمها على بقية الملفات المفتوحة في الإقليم المتفجر من حولنا؟ ... هل دخلت المنطقة عصر التسويات والتفاهمات، بعد سنوات من الفرز والاستقطاب والمعسكرات والخنادق؟
ما حدث في بغداد ليلة الأحد -الاثنين، كان بكل المعايير نقطة تحول في مسارات الأزمة العراقية ... انتهى عهد المالكي الممتد لسنوات ثمانٍ، عجاف في أغلبها ... تفرق رفاق الدرب والمسيرة، تخلى عن الرجل أقرب حلفائه، من الائتلاف والكتلة والحزب ... فجأة تنشأ قائمة بأغلبية 127 مقعداً، وفجأة يحدث التوافق بين المكونات الشيعية الرئيسة باستثناء من تبقى من الدعوة على ولائه للمالكي ومنظمة بدر وهادي العامري، "لم يعد للكولونيل يكاتبه” ... فجأة يصدر مرسوماً رئاسياً بالتكليف، لكأن المسألة برمتها "طبخت” في ليل بهيم.
لا يتوقف مسلسل المفاجآت عند هذا الحد، تنهمر التهاني والتبريكات، مشفوعة بتحذير للمالكي، هو أقرب للتهديد:ممنوع اللعب بالنار، لأنها ستحرقك وحدك ... رسائل حارة من الملك السعودي، تستعيد دور العراق ومكانته، وحدته وعروبته ... أخرى من طهران، ترحب بحرارة وتدعو لرص الصفوف والتوحد في مواجهة الإرهاب والتحديات ... قطر وأنقرة تنضمان إلى مواكب المستقبلين ... الجامعة والأمم المتحدة ... وقبل هؤلاء جميعاً، واشنطن، ومن ورائها لندن وباريس وبروكسيل ... لم نر منذ سنوات طوال، إجماع إقليمي – دولي حول رجل بعينه أو قضية بعينها كذاك الذي أحاط بالرجل ... هل هو إجماع على العبادي أم إجماع على رفض المالكي ورغبة في طي صفحته.
ما كان لهذه الصفقة أن تهبط جاهزة ومعدة سلفاً على مختلف العواصم المحتربة من السماء ... المؤكد أن هناك مفاوضات شاقة ومريرة، جرت وراء الكواليس، في القنوات وخلف الأبواب المغلقة ... والأرجح أنها لم تقتصر على العراق وحده، فمن يدفع الثمن هنا، يتطلع لقبضه هناك، هذه هي سُنّة المقايضات والتسويات ... لا شك أن تداعيات الصفقة العراقية وأصدائها، ستتردد بأشكال يصعب التكهن بها أو حولها، في بقية الأزمات والملفات المفتوحة في المنطقة ... لا شك أن الحوار الأمريكي – الإيراني، تخطى البرنامج النووي إلى قضايا الإقليم بلاعبيه وأزماته، بالفاعلين فيه والمفعول بهم على حد سواء.
البعض يرى أن إيران دفعت من كيسها جراء تمرير الصفقة العراقية ... مثل هذا الكلام، يفترض أن العبادي محسوب على الدوحة أو الرياض (؟!)، مع أنك بالكاد تعثر، وأنت تقرأ سيرة الرجل وتقلبه في المواقع والمناصب والمهام والمراحل، على ما يميزه عن المالكي، اللهم إلا إذا تعلق الأمر ببعض الخصائص والخصال الشخصية ... لكن الأهم، أن هذه البعض، يعتقد أن ما حصل في العراق، سيجري مثله في سوريا ولبنان ... سيخرج الرئيس السوري من المشهد السياسي السوري، من ذات البوابة التي خرج منها المالكي من المشهد العراقي، وسيأتي رئيس للبنان، إن لم يكن من فريق 14 آذار، فمن أقرب المقربين إليه ... مثل هذا التفكير "الرغائبي” يفترض أن إيران وحلفاءها قد هُزموا، وأن أوان قطف ثمار هزيمتها قد حان.
أحسب أن الأمر أكثر تعقيداً من النظرة التبسيطية –الرغائبية، التي تهيمن على قراءات وتحليلات فريق من الكتاب والسياسيين العرب، المحسوبين على محور "الاعتدال” ... إيران استلت اسم العبادي من سلة أصدقائها وحلفائها، وفي الحالة العراقية بخاصة، فإن هذه السلة مليئة بالخيارات والبدائل ... بخلاف الحالة السورية، حيث الأسد هو "حجر سنمار” الحزب والطبقة والنظام والطائفة ... سيناريو المالكي، ليس من السهل إعادة انتاجه سورياً.
أما في لبنان، فإن سيناريو كابول، والصفقة التي قادها جون كيري بين عبد الله عبد الله وأشرف غاني، هي الأقرب للواقعية، في ظل توازنات البلد الدقيقة، ورغبة الأطراف الإقليمية والدولية في توفير شبكة أمان لهذا البلد الصغير، ومنع انزلاقه إلى أتون الأزمتين السورية والعراقية ... الأرجح أن لبنان، وليس سوريا، هو أول من سيتأثر إيجابياً، بالصفقة العراقية الكبرى.
أياً يكن من أمر، فإن العبادي منذ لحظة اختياره "مرشح تسوية”، بات تحت الأضواء الكاشفة لكل اللاعبين في الإقليم وخارجه... وثمة "معياران اثنان” رئيسان للحكم على أداء الرجل وتقرير مستقبله: الأول، قدرته على إدماج العرب السنة والأكراد في العملية السياسية العراقية، وبصورة مرضية ومتوازنة، تقبل بها وتتعايش معها مختلف الأطراف ... والثاني، قدرة الرجل على حشد طاقات العراق، السياسية والاجتماعية والأمنية والعسكرية لمواجهة طوفان "داعش” وتهديد "دولة الخلافة”.
أحسب أن اختيار العبادي، بكل هذا الزخم والدعم والتأييد النادرين، يجعل الكرة تستقر في ملعبه وملاعب الأفرقاء المحليين، فإما أن ينهض الساسة العراقيون بمهامهم ومسؤولياتهم التاريخية، فينجوا وينجو العراق... وإما أن يظلوا غارقين في حروبهم الصغيرة والانتهازية، فيغرقوا ويغرق العراق.