قراءة في المزاج الفلسطيني العام

قد لا تتمكن أعرق مراكز استطلاع الرأي العام من استظهار المكنونات الوجدانية لشعب ما يزال تحت قصف النار، يلملم جراحاته الراعفة، ويتفرس في وجوه أطفاله ونسائه بين الركام وفي مدارس الإيواء. كما لا يستطيع باحث سياسي، أو عالم اجتماع، بناء صورة ذهنية شاملة لما يمور في الصدور من عواطف مختلطة، وما يتزاحم في العقل الجمعي من آراء ووجهات نظر متباينة، حيال الموقف الراهن، بما في ذلك تشخيص هذه اللحظة الملتبسة، ومقاربة آفاقها المحتملة، فما بالك بقياس المزاج العام.
لذلك، فإن هذه المطالعة ستعتمد على بعض ما يتداوله الناس في المواقع الإلكترونية المفتوحة على كل الأفكار، وعلى ما تنشره الصحافة اليومية الفلسطينية من مقالات، ناهيك عن النقاشات الجارية في اللقاءات المذاعة، ولا ننسى بالطبع المناظرات الليلية التي تحفل بها القنوات الفضائية، وحدث ولا حرج عن المراسلين الذين لا يكتفون بنقل الوقائع من عين المكان، وإنما يقومون بدور المعلقين السياسيين، ويتقمصون أحياناً اهاب المحللين الاستراتيجيين في غرفة العمليات.
مع ذلك، ينبغي الاستدراك بأن هذه القراءة قد لا تعبر عن مزاج قطاع واسع من الناس، ولا تعكس بالضرورة سوى رؤية لفئة من أصحاب الرأي، لا ينال منها الإرهاب الفكري. من دون أن يعني ذلك أنها في حالة تضاد مع الثوابت، أو أنها تفارق النبض العام، الأمر الذي يدفع إلى الاعتقاد بأن المزاج الذي ليس له "باروميتر" يقيس درجة حرارته، هو اليوم في حالة شعور بالفخر بما حققته المقاومة، والاعتزاز بما أنجزه المقاومون من مكاسب ميدانية وأخرى رمزية ومعنوية وأخلاقية تجل عن الوصف.
غير أن هذه المشاعر التي ترفع المعنويات وسقف التوقعات، لا تخفي مشاعر الألم أو الحس بفداحة الخسارة، ولا تداري الخشية من مآلات هذه الحرب اللامتكافئة، نظراً لعدد الشهداء والجرحى الذي فاق كل المستويات السابقة، وهول الدمار الصاعق الذي تجاوز الحجم القياسي لدمار ضاحية بيروت الجنوبية، وفوق ذلك كله هذا الأداء السياسي المشوب بقصر النفس والنظر معا، وبازدحام الأجندات، حتى لا نقول التربص الداخلي المغلف بغلالة رقيقة من التفاهمات الهشة، في شكل حكومة توافق لا "تمون" على غزة، أو وفد مفاوضات يتلقى تعليماته من الميدان، وليس من لدن مرجعية سياسية تبدو كجهة مراقبة.
وأحسب أن ما يعكر المزاج الفلسطيني الآن، هو الإخفاق في استثمار الإنجاز العسكري المتحقق، والفشل في تحويله إلى مكاسب سياسية موضوعية تصب في صالح معركة الحرية والاستقلال، والخشية من ذهاب هذه التضحيات سدى، على ضوء ما تقوم به إسرائيل من مراوغات، تهدف إلى تبديد هذه اللحظة السياسية المواتية للبناء عليها وإحداث الاختراق، وإدخال المفاوضات الجارية في حلقة مفرغة من الشروط والاشتراطات، وتوظيف عنصر الوقت الذي يقطر دماً، لإعادة تفجير الخلافات الفلسطينية، والقصاص من مصر ومن دولة الإمارات.
ولعل الورقة الفلسطينية الوحيدة، المتمثلة باستئناف القصف الصاروخي من جديد، قد أصبحت الآن، بعد أن تم استنفاد مدياتها القصوى من دون تدرج كانت تقتضيه التكتيكات العسكرية الرشيدة، هي أضعف الأوراق، نظراً لما يعيشه القطاع المحاصر من وضع لا يحتمل، ولما باتت تجبيه الرشقات الصاروخية من أثمان باهظة لا قدرة لأحد على دفعها إلى ما شاء الله، ناهيك عن كلفة ظهور الطرف الأضعف في صورة من يرفض الهدنة الإنسانية، ويكابر في وقف إطلاق النار، رغم الحاجة إلى برهة لالتقاط الأنفاس ومداواة الجراح.
وعليه، يمكن القول إن المزاج الفلسطيني بعد أكثر من شهر على بدء العدوان، ليس على ما يرام، ولا هو في الحالة التي كان عليها لدى طرح المبادرة المصرية، بعد أسبوع من الحرب، كانت فيها المقاومة في كامل عافيتها، وكانت المكاسب العسكرية في أتم تجلياتها، فيما كانت الخسائر البشرية والمادية عند أدنى مستوياتها، لولا الانجرار نحو أجندات جانبية، تقدمت فيها الاعتبارات الفئوية على الحسابات الوطنية، وتغلبت فيها أولويات تسديد الفواتير الخارجية على كل ما عداها، ما وضع الإنجازات العسكرية على حافة الحافة، وأشعل المخاوف من تحول المكسب إلى عبء، يتقلص معه القتال ويزداد فيه القتل باطراد.