ملاحظات حول نتائج الثانوية العامة
أخبار البلد - د. عوني أحمد تغوج
ليس غريبا ما تمخّضت عنه امتحانات الثانوية العامة من نتائج تبدو سيئة لكنها حقيقية، وأولى الخطوات نحو التقدم والاصلاح هو ان نعرف الحقيقة فلا نعيش في وهم زائف لا ينجم عنه الا المزيد من الفشل والاخفاق مما ينعكس سلبا على كل مجالات الحياة في وطننا.
وهنا أتقدم بهذه السطور الى صحيفة (الرأي) الغرّاء بهذه الملاحظات بعد عملي في التعليم المدرسي والجامعي أكثر من أربعة عقود لعلها كافية لأبدي رأيا من واقع التجربة التي لا أزال أمارسها.
وحول هذه النتائج وما كانت عليها من سلبيات (سابقا) وليس الآن فان المدرسين القدامى ممن درّسوا المرحلة الثانوية ويدرّسون الآن في الجامعات هم أكثر من يدركون عمق المأساة التي حدثت والتي توشك الآن بحمد الله أن تزول.
وبحكم التخصص أقصر حديثي على مادة اللغة العربية وعلى ظاهرة الغش وآثارها السلبية، في جامعاتنا شرع كثير من مدرّسي مادة اللغة العربية بتدريس مباديء الاملاء لطلبتهم الجامعيين أصحاب التخصص في اللغة العربية، وهم يتذكرون بأسى بالغ أن مستوى تلاميذهم في عقود سبقت في المرحلة الابتدائية كان أفضل من مستوى طلبتهم الجامعيين، ولم يقتصر الأمر على الاملاء وانما تعداه الى التخفيف المريع من المتطلبات الجامعية التي اصبحت لا تتجاوز بضع صفحات في كل مادة، حدث هذا كلّه ويحدث بعد أن تسرّب الى الجامعات عدد كبير من الطلبة الذين (نجحوا) بوساطة الغش ففرضوا واقعا سيئا على الجامعات لم تستطع تجاوزه.
وبكل الأسف والحزن البالغ أجدني في هذه السطور أقدّم دفاعا عن اللغة واهميّتها - الى هذا الحد وصلنا - فاللغة هي روح الأمة وهي الجسر ما بين ماضيها وحاضرها، وهي لدى جميع شعوب العالم الأساس الذي تقوم عليه حضارتها ومدنيتها بل وعقائدها وقيمها.
لقد كان لنداء (الله أكبر) باللغة العربية أكبر الاثر في تحقيق امجاد الأمة حتى لدى الشعوب غير العربية ممن دافعت عن أمجاد هذه الأمة من أكراد وبربر وأتراك وشراكسة، ولا ننسى في هذا المجال ما ذكره قائد الحرب الفيتنامية (جياب) عندما عزى انتصار فيتنام الى (اللغة)
وأتساءل... ما جدوى أي شهادة جامعية في اي تخصص بينما حاملها لا يجيد كتابة فقرة باللغة العربية، كيف يمكن لهذا الجامعي أن يكون لديه أدنى انتماء الى امته وهو لا يفهم لغتها؟!
إن ما قامت به وزارة التربية والتعليم مؤخرا هو بمكانة صحوة ونهضة ليس في مجال اللغة العربية وحدها وانما في جميع المجالات العلمية الأخرى. وأحسب أنه لو لم يحدث ما حدث لوصلنا الى مرحلة انهيار تام أو زيف كامل نخرج منه بصدمة تقضي على ما تبقى من قليل.
وحول ظاهرة الغش يعجبني بيت المتنبي:
وليس يصحّ في الأذهان شيء إذا احتاج النهار الى دليل
ولا أحسب الخطاب بمنطق العقل ينفع شيئا مع من يحرّضون أبناءهم على (الغش) بل ويساعدونهم ايضا، ومسألة (الغش) هي شرعا وقبل كل شيء حضّ على (المنكر) وقلب واضح لكل مفاهيم الصدق والامانة والشرف، ولعل لسان حال كل من يحضّ على الغش هو (لينجح ابني وليذهب الوطن والآخرون الى الجحيم) واحمد المولى أن هؤلاء قلة من شعبنا ولكن ينبغي أن لا يكون لهم أدنى صوت أو تأثير على المصلحة العامة، وليس خافيا أنه حتى لدى أكثر شعوب العالم تخلفا لا نجد فيها من يدعو الى (الغش) ويحارب من يحاول منعه أو الحدّ منه... فكيف وصل بعضنا الى هذا المستوى؟!
أقل ما نقول لهؤلاء أن العبادات ما لم تنعكس على سلوك أصحابها تصبح غير مقبولة ولونا من النفاق الواضح.
وحول انجازات وزارة التربية..
ما زلنا نذكر حتى الآن أننا قدّمنا في الستينات امتحان الثانوية العامة في اربعة أيام، ونتذكر أن اخفاقا واحدا كان يعني الرسوب الكامل، هذا عدا عن قلّة الخيارات في المناهج ومع ذلك كلّه أنجب هذا الوطن نخبة من العلماء في شتى المجالات حتى وصلنا الى ما نحن عليه.
وفي ايامنا تغير الكثير.. تطورت المناهج.. وتطورت الامتحانات.. حتى غدا النجاح ممكنا (بالتقسيط) المريح.. ولم يبق لدى وزارة التربية الا ان تخصّص لكل صف ولكل قاعة طبيبا نفسيا وحزمة ادوية.. وهل هذا معقول؟!
أتمنى أخيرا من صحافتنا أن لا تبدي الشفقة في غير محلها، فهذه الشفقة تضرّ أصحابها ولا تنتج في النهاية الا جيلا لا تهمه سوى مصلحته الخاصة، وجيلا سيجلب الدمار لنفسه ووطنه، ويكفي أن نقول أن انهيار التعليم هو المقدمة الأولى نحو انهيار كل شيء ونحو سيادة الفوضى والتخلّف، ولنا الأسوة في الدول المتقدمة التي ما تقدّمت الا بالعلم وليس (بالغش) وليس (بالتسهيلات) المجانية على حساب الأوطان.