إسرائيل ووقف النار... أحادياً
ماذا يعني إعلان إسرائيل عن وقف أحادي الجانب لإطلاق النار في غزة؟ ... سؤال يكتسب مشروعيته في ضوء الأنباء التي تتحدث عن تفضيل حكومة نتنياهو لتبني هذا الخيار، وبدء عملية إعادة انتشار للقوات الغازية لقطاع غزة.
في إسرائيل، هناك من يعتقد بأن خياراً كهذا، سيجرد حماس من إمكانية "تحقيق النصر” أو ادّعائه، بالنسبة لهؤلاء، الجيش أنجز مهمته، وألحق ضربة استراتيجية بحماس، وهو يخرج من حربه الثالثة على غزة، طليق اليدين، وبمقدوره من دون حسيب أو رقيب، أن يعاود القتال، متى شاء وأينما شاء، سواء للرد على أي "تحرش” فلسطيني، أو لاصطياد هدف ثمين.
وتمهيداً للأخذ بهذا الخيار، امتنعت إسرائيل عن إرسال فريقها المفاوض إلى القاهرة، وطلع رئيس حكومتها ووزير دفاعها على الرأي العام الإسرائيلي، لاستعراض قائمة المنجزات / الانتصارات التي حققها "الجيش الذي لا يقهر”، في محاولة لرسم "صورة المنتصر”، مع إبقاء الباب مفتوحاً أمام مزيد من العمليات في قادمات الأيام، لإتمام ما لم ينجز في الأسابيع الأربعة الفائتة.
لكن في المقابل، هناك في إسرائيل أيضاً، من يعتقد أن الأمر بمجمله، لا يعدو كونه "مسرحية” سمجة، يقدم عليها فريق الحرب المكون من رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس الأركان، هدفها توفير مخرج من "ورطة غزة” من جهة، وحفظ ماء الوجه من جهة ثانية، وقطع الطريق على لحظة الحساب التي ينتظرها هذا الثلاثي في قادمات الإيام، لذا رأيناهم يبالغون في تقدير حجم المكاسب والمنجزات.
أصحاب وجهة النظر هذه، إما أنهم من بقايا ومخلفات ما كان يعرف بـ "معسكر السلام” في إسرائيل، وإما هم من أصحاب نظرية "دعوا الجيش ينتصر”، الذين يريدون احتلال كامل قطاع غزة، واجتثاث حماس من جذورها، حتى وإن اقتضى الأمر، إعادة احتلال غزة بالكامل، ولعدة سنوات قادمة.
نتنياهو المتلعثم، حاول أن يكون "قاطعاً” في تأكيده على "الهزيمة الاستراتيجية” التي منيت بها حماس ... نحن وملايين المراقبين والمشاهدين الذين تابعوا لحظة بلحظة وقائع الحرب الثالثة على غزة، لم نعرف عمّا يتحدث الرجل ... رأينا حرباً على المدارس ومقرات الأمم المتحدة والمساجد والجامعات، رأينا حرب تجريف وإبادة لإحياء وحارات بما فيها، ومن فيها من بشر وشجر وحجر، رأينا مئات الأطفال يسقطون شهداء بقذائف الدبابات وصواريخ الطائرات ... لم نر أهدافاً استراتيجية لحماس، أو غيرها من فصائل المقاومة، قد دمرت... لم نر قادة المقاومة وقد تسلقت صورهم و”بوستراتهم” جدران القطاع المحاصر ... حتى الإعلام الإسرائيلي الذي كان بأمس الحاجة لـ "صورة الانتصار”، لم يعثر على ما يدعم ادّعاء نتنياهو وأركان حربه.
لم تتوقف صواريخ المقاومة، فيما الحرب تكاد تدخل شهرها الثاني ... لا يوجد أي تأكيد، من أي نوع، ولا حتى على ألسنة الناطقين باسم الجيش الإسرائيلي، بأن الأنفاق الهجومية قد دمرت ... تقارير المنظمات الدولية تتحدث عن خسائر بشرية، أكثر من تسعين بالمائة منها في صفوف المدنيين الأبرياء، وبالأخص في صفوف الأطفال والفتيان والنساء وكبار السن وأصحاب الإعاقات والاحتياجات الخاصة .... أين هي هذه الهزيمة الاستراتيجية.
ثم، نود لو أن نتنياهو يقرأ العدد الأخير من الإيكونوميست، ومثلها عدد من كبريات الصحف العالمية، التي تحدثت عن "ربح المعركة وخسارة الحرب” ... إسرائيل خسرت معركة "الصورة” و”الرأي العام”، وحصار غزة لم يعد ثقيلاً على صدور أهلها وحدهم، بل وعلى الضمير الإنساني الدولي، وإسرائيل طائعة أم مرغمة، ستذهب إلى المفاوضات، وأقصد بها تلك الدائرة في القاهرة، وهي اليوم في قلب هذه المفاوضات وإن من وراء ستار، وستنتهي هذه الحرب، بإنهاء الوضع الذي كان سائداً في غزة منذ ثماني سنوات، وما يجري الآن، هو بحث في كيفية فعل ذلك.
وإذا كانت إسرائيل تعتقد بأن الوقف الأحادي لإطلاق النار، يُبقي لها يدين طليقتين، فإن المقاومة الفلسطينية ستتمتع بدورها بيدين طليقتين، وستظل خطوط التماس على امتداد حدود القطاع المحاصر، ساحة لمعارك ومواجهات، ترتفع وتيرتها وتنخفض وفقاً للظروف والتطورات، لكن إسرائيل لن تنعم بالهدوء والسكينة بدورها، بخلاف ما قاله نتنياهو عند بدء الحرب، من أن الجيش خرج إلى غزة ليعود بالهدوء والاستقرار لإسرائيل والإسرائيليين.
مجازر إسرائيل الوحشية، التي ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، باتت تثير مشاعر الاشمئزاز في العالم، وثمة قوة دفع فلسطينية ودولية، من أجل الخلاص من نير الحصار والتجويع .... وإذا كانت إسرائيل قادرة على المماطلة والعرقلة لبعض الوقت، فالمؤكد أنها لن تكون قادرة على الاستمرار في ذلك، طول الوقت .... ستعود إسرائيل إلى طاولة المفاوضات، وقد تفعل ذلك بأسرع مما يظن كثيرون، وربما بما لا يحفظ ماء نتنياهو – يعلون –جينس.