من يدافع عن الخصخصة..
يوم ظهرت على السطح - ولم تكن لاول مرة - الدعوة السافرة للخصخصه كما اطلقتها رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر وحليفها الرئيس الأميركي رونالد ريغان في ثمانينات القرن الماضي رحبت بها أوساط سياسية واقتصادية في العديد من دول العالم، ولقد كان لبراعة تاتشر (الخطابية البلاغية) فضل كبير في انتشار تلك الدعوة ، وراح المؤيدون يزفون البشرى بقرب انتهاء دور الحكومات في تحمل مسؤولياتها التي عرفها الناس عبر الزمان بحجة أن القطاع الخاص أقدر منها ! وفي غمرة هذه (الزفة) الكبرى وتحت وطأة الصدمة رضي الناس في كثير من البلدان بخصخصة مؤسسات لا تمس – او هكذا ظنوا – رزقهم وصحتهم وتعليمهم كالاتصالات والمناجم والنقل، لكنهم اكتشفوا بعد حين من الذهول أن كل هذه المؤسسات لها علاقة غير مباشرة بحياتهم ومستقبل اجيالهم.
ولقد ظهرت بعد ذلك كتب كثيرة تحلل وتنتقد الخصخصة وتكشف بعض نتائجها الكارثية وتشير الى جذورها الحقيقية الموجودة في (الرأسمالية) التي أصبح اسمها – من أجل التمويه – (اقتصاد السوق)! وتشير التسمية بوضوح الى أنها مجرد قناع يخفي وراءه نفس اهداف نظام التملك الجائر والربح المنفلت من كل عقال بدافع الجشع اللا محدود، ولو ادى ذلك الى زيادة الفقر والبطالة، أو خضوع الحكومات لضغط أصحاب المصالح والمثال الممعن في السخرية هو خصخصة السجون التي جعلت (مالكيها الجدد) يسعون لزيادة عدد نزلائها ولم يكن ذلك ممكنا إلا بابتداع قوانين جديدة تحكم بعقوبة السجن على مخالفات كانت من قبل بسيطة لا تستحق ذلك ! حتى أصبحت الولايات المتحدة الأولى في العالم بعدد سجونها ومساجينها ففاقت الصين التي يربو عدد سكانها على اضعاف سكان أميركا !.. والمثال الآخر الخطير هو تسرّب الخصخصة الى الجيوش بتجنيد المرتزقة (سمتهم أميركا المتعهدين!) الذين يخضعون لشركات خاصة (بلاك ووتر نموذجاً) ناهيك عن توسّع الشراكة الصناعية العسكرية التي حذر منها آيزنهاور قبل أكثر من نصف قرن !
في عالمنا العربي تحيَّر القوم أول الأمر ولفترة وجيزة في اختيار العنوان المناسب أهو الخصخصة أم التخاصية أم الخوصصة وانساق الكثيرون وراء هذه الحيرة ونسوا في خضمها الأضرار الحقيقية التي بدأت تلحق باقتصاد البلاد واتساع رقعة الفساد وغياب دور الدولة عن واجباتها الدستورية في حفظ الثروات الوطنية وانزلاقها تدريجيا للتنازل عن وظائف اساسية كالصحة والتربية والتعليم حتى كادت الخصخصة أن تلتهمها لولا صحوة ذوي الضمائر الحية وصرخاتهم الشجاعة التي لم تتوقف عن التحذير قط..
نسأل اليوم وبعد مضي عقود على تطبيق انماط من الخصخصة في بلادنا: من هم الذين ما زالوا يدافعون عنها (كمبدأ اقتصادي سليم لو أحسن تطبيقه)؟ وكيف يغمضون أعينهم عن المصائب التي جرتها علينا، ويتجاهلون تجارب دول أخرى سلبت الخصخصة فيها حقوق ملايين الفقراء وحرمتهم من مكاسب اجتماعية هي ثمرة نضال البشرية جمعاء على مدى قرون طويلة، كما انتهت احيانا بعودة اعداد كبيرة من مواطني تلك الشعوب خصوصا في اميركا اللاتينية الى عصور الجهل ما داموا لايملكون (ثمن) التعليم، والى الموت على الارصفة انتظاراً لاحسان الجمعيات الخيرية في تقديم الخدمات الصحية لهم.. بدل الدولة !؟
نعم هناك مدافعون عن الخصخصة ، بعضهم ينتمون الى الطبقة المستفيدة منها والبعض الأخير هم اولئك الذين يظنون أنها أفضل السبل للنمو الاقتصادي ويصح فيهم القول إنهم ( عقائديو الخصخصة) وهؤلاء فقط هم الذين يثيرون القلق الحقيقي لأنهم أصحاب رأي آخر لا يجوز قمعه أو مصادرته ، ولا سبيل لعودتهم الى رشدهم إلا بتوعيتهم، والمكتبة العالمية الورقية منها والالكترونية عامرة الآن بمئات المصادر والمراجع المؤهلة لهذه المهمة..
وبعد.. فان دور الدولة – اي دولة – نحو المجتمع الذي قبل بها أو ارادها إطاراً لحياته ومستقبله، لا تحدده بحق سوى البوصلة التي تؤشر دائماً الى (العدالة الاجتماعية)..