أين العرب؟

اخبار البلد
 

العرب! العرب! العرب! أين العرب؟.. كلمات تصبح على كل لسان عندما تشتد الخطوب وتضرب أحدهم النوازل؛ ولكنهم لا يسمعون النداء ولا يستجيبون له. يأكلون ويشربون ويتسوقون ويؤرجلون، ويتابعون المسلسلات بعد المونديال حتى السحور، فيما أهالي غزة يفتشون على أشلاء أطفالهم بين الأنقاض.
وفي تفسير ذلك قيل: إن العرب اليوم مجرد أطلال قطرية لا تنتمي إلى العروبة؛ فعقولهم وقلوبهم متفرقة، وجامعتهم لا تجمعهم، بل هي مجرد استراحة أو ديوانية، وشعارهم الجديد: "أنج سَعد فقد هلك سُعيد". ومع أن التحديات والأخطار وتداعياتها التي يواجهون مشتركة، إلا أنهم يتصرفون أمامها قطرياً؛ فلا يستطيع أي واحد منهم أن يواجهها منفرداً: إيران، أو تركيا، أو إسرائيل التي تسن أسنانها على مُلْكهم لتقضمه، بمجرد أن تتخطى إحداها الخط الاستراتيجي الأحمر في نظر الثانية أو الثالثة.
كان العراق الذي دمره العرب -بفتح براريهم وبحارهم وأجوائهم للعدو- يحمي ظهر آسيا العربية، ولكنهم كشفوه لمن لا يغطيه. وعليه، لم يعودوا قادرين على سماع النداء أو الاستجابة له، ولا يتوقعن أحد من أي منهم فعلاً (فاعلاً حاسماً) ضد اعتداء إسرائيل المدمر على قطاع غزة؛ فأقصى ما يستطيع أن يجود به عليه أو على مدينة القدس، تصريح خجول يشجب فقط؛ فالعرب هم أبناء يعرب بن يشجب.
إن صندوقهم الأسود مزدحم بعفن التاريخ ونفاياته القبلية والمذهبية والطائفية والعرقية؛ منذ حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس، ومقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومعارك صفين والجمل وكربلاء... وقد انفجر في وجههم اليوم وطار غطاؤه من شدة الانفجار، فخزق السقف ودمر الجدران، واشتعلت الحرائق في معظم أقطارهم.
لقد حطمت معظم شعوب العالم صناديقها السوداء وخرجت منها من زمان، إلا العرب والمسلمين الذين فقدوا بها القدرة على الردع، والقدرة على الهجوم، والقدرة على الدفاع.
كانت فلسطين عندهم هي البوصلة والقضية المركزية الأولى، ثم صارت مجرد مشكلة في مكان مجاور. صار كره بعضهم لحركة حماس يعني حبهم لإسرائيل. تكره "حماس" أنت حر، ولكن ذلك لا يعني أن تكره فلسطين وأن تحب إسرائيل، فأنت عندئذ تصبح إسرائيلياً أو صهيونياً، مثل القلة من أحفاد أبي رُغال وابن العلقمي -التي تصلي كي تنجح إسرائيل في تصفية القطاع وقضية فلسطين مقاومة وشعباً- وليس فلسطينياً أو عربياً، مع أن مصير العرب منفردين ومجتمعين متعلق بها وبتداعياتها شاؤوا أم أبوا، واستراتيجية إسرائيل تراه كذلك وتقضي بالتفوق عليهم -عسكرياً- منفردين ومجتمعين.
لقد أضفت إسرائيل الطابع الديني القوي على الصراع، مما لا يجعله ينتهي إلى تسوية عادلة؛ لأن إضفاء الطابع الديني على أي صراع يجعل كل حرب تخاض أو جريمة باسمه ترتكب مقدسة. ولما كانت إسرائيل أكثر كيان في العالم يشعر بالقلق الوجودي الدائم، لأنه عبارة عن مجتمع غزاة أو مهاجرين من وراء البحار استولوا بالحيلة والقوة والخيانة البريطانية والدولية على أرض شعب وشردوه، فإن التطرف الديني فيها يزداد حدة أفقياً وعمودياً.
وإلى تلك القلّة نقول: إن العرب -لا الفلسطينيين- هم الذين ضيعوا فلسطين مرتين (1948 و1967) وقطاع غزة مرتين (1956 و1967)، وإن مسؤولية العرب التاريخية والقانونية والسياسية عن ذلك لا تسقط بالتقادم ولا بالتفويض الذي أعطي -للأسف- لمنظمة التحرير (أو التمرير)، وعليهم تحمل هذه المسؤولية بشرف، بدعم الشعب الفلسطيني في تصديه لإسرائيل، ووقف العدوان البربري على قطاع غزة، وإنهاء الحصار المزدوج عليه، وإلى أن تعود فلسطين إلى ما كانت عليه عندما دخلتها الجيوش العربية العام 1948. تلكم هي المسألة وتلكم هي القضية، ويجب أن لا يحيد أحد -استراتيجياً- عنها، فلا يقولّن: إننا نقبل بما يقبل به الفلسطينيون، أو أننا لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين؛ فالتاريخ والمصير المشترك لا يقبلان مثل هذا القول أو ذاك إن كان يهدد هذا المصير. إن الشعب الفلسطيني لا يقبل ما قبلت به منظمة التحرير، ولا يرى أن حل الدولتين حل على الإطلاق.