هل خسرت الرهان؟!

عندما بدأت اسرائيل عدوانها على غزة لم التفت الى الموقف العربي ، لأنني لم اكن انتظر ردا يرتقي الى مستوى الحدث الدموي ، والسبب انني على يقين بأن الدولة العربية متشظية عاجزة ، وغير قادرة على اخذ زمام المبادرة ةاعادة القضية الفلسطينية الى بيتها كقضية مركزية ، اي ان الدولة العربية لا تريد تحمل المسؤولية التاريخية بتحرير ارادتها وانتزاع قرارها السيادي مرة اخرى من القوى الخارجية المهيمنة التي خرجت من الشباك لتعود من اوسع الابواب بوسائل عسكرية ضاغطة مغلفة وموضبة باوراق سياسية واقتصادية ملونة قصد التمويه .
ولم اراهن على حراك عربي رسمي ضاغط ، لأن النظام العربي الجديد نظام مشوه الوعي والتفكير والمعتقد ، وهو نظام غارق بدمه الذي تدفق مع اطلالة الربيع الاسود ، والذي حمل الينا مشروع تفكيك «الدولة» واعادة تشكيل الوعي الجمعي الاستهلاكي حسب الطلب وعلى قاعدة « الأنا « الفردية ، الرافضة للغير من اجل تفتيت وتفكيك وتخريب النسيج الاجتماعي وزيادة جرعة التعصب الطائفي والجهوي والقطري .
الحقيقة اننا راهنا على ولادة الانتفاضة الشعبية الثالثة في داخل فلسطين التاريخية ، وكتبت أكثر من مرة ان اسرائيل تخشى الانزلاق في حرب برية في غزة لأنها تخشى من اطلاق الصواريخ من القطاع وانطلاق الانتفاضة في الضفة . ولكن يبدو انني اخطأت في توصيف الحالة ، رغم الغضب الجماهيري المحدود في الضفة ، والذي فاقه الحراك الشعبي الغاضب في الديار الفلسطينية التي احتلت في العام 1948 والواقعة خلف ما يسمى بالخط الاخضر ، وهو الحراك الذي يبشر ويؤشر الى اعادة الصراع العربي الاسرائيلي الى جذوره ومربعه الاول .
وامام المشهد النازف الدامي في غزة كنت اتساءل عن سبب الخطأ في تقدير الموقف ، واتساءل عن غياب الانتفاضة الثالثة رغم فظاعة المشهد ، وتصعيد العدوان الاسرائيلي جوا وبحرا ، وربما يتحول الى عدوان بري اكثر وحشية في وقت لاحق . ولكن عندما قرأت كتاب « حلم رام الله – رحلة في قلب السراب الفلسطيني « ادركت السبب وبطل العجب .
هذا الكتاب الواقعي الصادم الذي كتبه وقدمه الصحفي الفرنسي في صحيفة لوموند بنجامين بارت ، بعد معايشة ومتابعة للحدث الفلسطيني في الداخل طوال عقد زمني كامل حمل الينا الاجوبة على كل الاسئلة والتساؤلات عبر الحقائق التي تقول وتثبت انه تم بنجاح اعادة تشكيل الوعي الجمعي الفلسطيني منذ اتفاق اوسلو حتى الان ، بشكل يتناسب مع الرغبة الاميركية ويستجيب للشروط الاسرائيلية .
يتحدث الكاتب ، كما ورد في الكتاب ، عن التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في رام الله والضفة ، وهي تحولات صادمة بالطبع ولا تخدم قضية الصراع الفلسطيني الاسرائيلي او التصدي للاحتلال . لقد تحث الكاتب بعين الراصد فقال ان رام الله استبدلت الملصقات التي تمجّد شهداء الانتفاضة بالاعلانات التجارية الضخمة ، وقد رافق ذلك ولادة طبقة ثرية مستفيدة من المساعدات الدولية ، على حساب الطبقة المتوسطة والفقيرة ، وهذه النخبة التي بيدها السلطة هي التي صنعت مدينة عصرية لتكون عاصمة بلا دولة في سلطة بلا دولة ، وهي غير محررة بالكامل ولا محتلة بالكامل . وفي النهاية يقول ان المجتمع المديون لا يصنع ثورة .
وبعيدا عن كتاب « حلم رام الله» نرى ان اسرائيل لها دور كبير في خلق الواقع الجديد من خلال فرض وتكريس الجغرافيا السياسية والعسكرية التي حالت دون تحقيق الهدف الفلسطيني ( الحلم الفلسطيني ) الحقيقي القائم على الوعي الجمعي والمتمثل باقامة الدولة المستقلة وحق تقرير المصير، وهو الهدف الذي لا تستطيع رام الله تجاوزه .
وعندما اعود لمتابعة تطورات ما يجري على جبهة المواجهة في غزة ادرك انني لم ولن اخسر الرهان ، لأن صمود المقاومة في مواجهة عدوان دموي متوحش ينفذه جيش الاحتلال الاسرائيلي ، هو نصر حقيقي للمقاومة وتيارها العربي ، يبشر باعادة صياغة المستقبل الجديد.