غزة تقاوم واقفة
كما الاشجار تموت واقفة.. غزة تقاوم واقفة..
عندما شاهدت الغربان المعدنية المتوحشة تأتي من جهة البحر، ومن خلفه، لتفرغ جوفها الطافح بادوات القتل والتدمير فوق الاحياء السكنية في مدن ومخيمات قطاع غزة، ورايت جثث الضحايا تسحب من تحت الانقاض، تذكرت الشاعر الغزاوي معين بسيسو الذي قال ذات يوم: هذا هو اليوم الذي حددته لنا الحياة، كما قال في قصيدته « المعركة «: « انا ان سقطت فخذ مكاني يارفيقي في الكفاح «. الى ان يقول: انا لم امت، انا لم ازل ادعوك من خلف الجراح.
وها هي غزة النازفة الراعفة الراعدة تحكي اليوم للنجوم حكاية الوطن السجين والشعب المحاصر. حكاية غزة الصامدة التي تخاطب الفجر وتنشد اناشيد الكفاح، وتواجه الجيش المدجج بكل انواع القتل والتدمير بقافلة من الجياع الذين انهكهم الحصار، ولكنهم تميزوا بالصبر والبأس وصلابة الروح والارادة.
هذا هو المشهد الواضح، والواقع الفاضح، لكل المتخاذلين الذين ارادوا خلط الاوراق وتغيير اولويات الصراع بخلق اعداء وهميين في جوانب وقلب الوطن العربي الكبير، او في اطراف الاقليم، من اجل الانحراف والتراجع عن صلب وجوهر الصراع العربي الاسرائيلي، وبالتالي اخراج القضية العربية المركزية من الذاكرة العربية، استجابة للرغبة الاميركية الاسرائيلية.
وامام ما يحدث على جبهة القتال، بل العدوان الاسرائيلي على القطاع، نتساءل: كم من الدم تحتاج غزة لرفع الحصار عن شعبها، او لتحريك النخوة العربية، ليس لدخول حرب ضد اسرائيل، بل لمجرد الشجب او ممارسة الضغط لاخماد نار المحرقة التي اشعلتها اسرائيل في غزة ؟!
الكل يعرف ان المسألة ليست مسألة اطلاق صواريخ، ما يدور اليوم في القطاع وحوله، هو نتيجة حتمية لفشل المسيرة السلمية، ونحن نعرف من الذي نسف المفاوضات العبثية. والكل يعرف ان الحكومة اليمينة العنصرية في اسرائيل، مدعومة من المجتمع الذي تحرك برمته الى اليمين المتطرف، ترفض اقامة الدولة الفلسطينية، ولا تعترف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وتعتد ان قيام دولة فلسطينية على قاعدة حل الدولتين، يهدد وجود اسرائيل.
وبهذه المناسبة نسأل: كم لجنة شكلتها الولايات المتحدة الراعي لعملية السلام، وكم لجنة ومبادرة قامت بالتعاون مع الامم المتحدة، او الدول الكبرى المعنية بالصراع العربي الاسرائيلي ؟ ولماذا كان مصيرها الفشل دائما ؟
الادارة الاميركية تعرف، ولكنها تحرف، تعرف ان اسرائيل افشلت ونسفت كل الاتفاقات والمعاهدات، كما عرقلت اعمال اللجان وافشلت مهامها، وتمسكت بنشاطها الاستيطاني في الاراضي المحتلة، والاستمرار بتنفيذ مشروع التهويد وضم القدس، والتراجع عن اطلاق سراح المعتقلين والاسرى، بل اعادت اعتقال الاسرى الذين افرجت عنهم في عملية التبادل مع الجندي الاسرائيلي شاليط.
الموقف الاسرائيلي الراهن، الناتج عن هشاشة الواقع العربي، سيقود الاسرائيليين الى سلسلة من الحروب القصيرة، او الطويلة، وهذه الحروب لن تحقق الاستقرار او الامن للمجتمع الاسرائيلي، وما يجري الان عبر العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة يؤكد لاسرائيل، ومن يؤيدها ويدعمها، ان الخيار العسكري لن يحقق اهدافها، وان الهروب الى الامام لن يحل ازمتها الوجودية، لأن الشعب المحاصر الذي سطر بدمه ملحمة الصمود سيخوض الف حرب وحرب دفاعا عن حريته وكرامته، لأنه مؤمن بأن الحق اقوى من الطائرات والدبابات والبوارج الحربية.
هذا الشعب الصامد يعرف ان اسرائيل تترجم السلام الى عدوان وقصف وتدمير، ولكنه يعرف ايضا ان الجيش الاسرائيلي يخوض حرب الفرصة الاخيرة، ويريدها قصيرة، وفي الوقت الضائع، وأن الصمود الاسطوري في غزة هو النصر الحقيقي..