أوراق د. سمير مطاوع السياسية

جميل النمري
 

أهداني الصديق د. سمير مطاوع كتابه الأخير "أوراق سياسية من زمن التيه والنكسات" فأتيح لي أثناء السفر أن أطالعه على وسع، وبالمناسبة لا ينافس أسلوب مطاوع السلس والممتع في الكتابة الا أسلوبه في الحديث الشفوي، وهو يغرف من تاريخ شخصي حافل بالتجارب منذ الخمسينيات حين كان طالبا يعمل جزئيا في إذاعة القدس وشهد عن بعد أمتار مصرع المغفور له الملك المؤسس على أعتاب الأقصى، وقد بقي في العمل الإعلامي قريبا ومتابعا للأحداث مع فيض لا ينتهي من الذكريات مع مختلف الشخصيات والمحطات المشهودة في المنطقة.
وأنا لم أصبح على علاقة شخصية مع د.مطاوع الا حين أصبح وزيرا للإعلام مع د.عبد السلام المجالي وكان يستضيفنا -جمعا من الإعلاميين- دوريا في بيته للحوار الودي ويتكلف شخصيا بالعشاء المنزلي المميز، لكن تلك السهرات لم تفلح في التفاهم مع اعلام الاسبوعيات المنفلت من عقاله، وكنت أتعاطف مع الرجل الذي بدا لي متحضرا أكثر مما يجب بالنسبة للبيئة التي يعمل فيها ما بين وسط صحفي شرس ومواقع للقرار متعنتة تحتكر المعلومة حتى عن وزير الإعلام.
وكانت حادثة محاولة اغتيال خالد مشعل نموذجا صارخا، فقد بقي وزير الإعلام حتى اليوم التالي محجوزا رسميا عند أول معلومة قيلت له من الأمن بأن الحادثة هي مجرد طوشة شخصية بينما العالم كله قد بدأ يعرف الحقيقة عندما كان المغفور له جلالة الملك الحسين يسابق الزمن بالضغط على الإسرائيليين لإنقاذ حياة مشعل واضعا معاهدة السلام مقابل حياة الرجل ثم لاحقا إطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين مقابل إطلاق سراح عملاء الموساد.
وبما أن الكتاب مجموعة محاضرات وأوراق عمل قدمت في أوقات مختلفة فقد ذهبت بعد قراءة الفهرس مباشرة الى المقال الذي يتناول حديث محمد حسنين هيكل عن جلالة الملك الراحل الحسين في حلقة من حلقاته الشهيرة على قناة الجزيرة، والتي أثارت غضبا وردود فعل واسعة في الأردن، ولما كانت أغلب التعليقات في حينه قد تبارت في الردح الشخصي لهيكل وتصدى الهواة قبل المحترفين من الكتاب في استعراض قدراتهم في سحق الكاتب المصري الكبير والحط من شأنه، فقد كان لديّ الفضول أن أرى كيف تناول مطاوع الأمر فأرضاني تماما؛ إذ تناول الموضوع وليس شخص الكاتب مخاطبا عقل القارئ ومستعينا بالأدلة الموثقة لتفنيد هيكل بلغة محترمة بعيدا عن التوصيفات والأحكام المسبقة المهينة لشخص الخصم. وهو لا يكتب متزلفا متملقا بل كشاهد مطلع ينتصر للحق والحقيقة. ولا يمكن بالطبع إنكار عواطف مطاوع ووفائه وتعلقه العميق بشخص الحسين، فقد كان لخمس سنوات متوالية بين 85 و89 مستشارا صحفيا لجلالة الملك ومسؤولا عن إعلام الديوان الملكي العامر.
بأسلوبه الذي يجمع بين اللغة الصحفية واللغة البحثية، يبقيك الكاتب مشدودا لمتابعة النص، فلا لغو ولا غرق بالتفاصيل الجانبية ولا تطويل إنشائي في عرض وجهة النظر بل استعراض مختزل ورصد مدعم غالبا بالوثائق والمراجع، مما يسهل السير مع المادة برضا واستمتاع وإحساس بالفائدة المتحققة حتى لو لم يكن في بعض المحطات جديدا تكشف عنه. ولعل ثقافة مطاوع الواسعة وخلفيته المهنية الطويلة والمتنوعة أفادت في اسباغ هذه الميزات على كتاباته فهو ينحدر من مدرسة البي بي سي العريقة في مهنيتها الصحفية وهو أكاديمي عمل في البحث وألف كتبا تقوم على البحث والتوثيق الدقيق مثل كتاب الأردن في حرب 1967، ويباهي مطاوع بسيرته البحثية وحرصه على الأرشفة؛ حيث يؤكد حيازته على أكبر أرشيف شخصي لوثائق حول القضية الفلسطينية وما يتصل بها ينوف على مائة ألف صفحة، كما اقترب من مواقع القرار ومارس المسؤولية الرسمية بما يترتب عليها من التزام وحرص فقد عمل في إعلام الديوان الملكي وعمل وزيرا للإعلام في الحكومة وسفيرا للأردن في هولندا وتابع من بين أمور أخرى المعركة القانونية في محكمة لاهاي حول جدار الفصل العنصري حيث لا تفيد الخطابات الانشائية بل العمل العلمي القانوني والتوثيقي، ثم هو ابتداء ابن القدس ويمكن للمرء أن يحس كيف تفيض من كتابته ومن ثنايا الهدوء والمهنية الإعلامية والسياسية تلك الحرقة الوطنية الجارفة والمشاعر المنفعلة بالأحداث الصغيرة والكبيرة للقضية الوطنية الفلسطينية ومحيطها القومي.
على تعدد المواضيع، يسود الأسلوب نفسه مواد الكتاب من محاضرات وأوراق عمل تغطي الفترة الممتدة من أواسط التسعينيات وحتى الربيع العربي، ولكن المحاضرات والأوراق تتناول بالطبع أحداثا أبعد وهي تنعش الذاكرة بدون أن تثقل عليها باستعادة رشيقة للأحداث والتطورات التي حفرت عميقا في تاريخ الأمة، ويمكن البدء في الكتاب من أي موضوع بدون مشكلة وقد اختار الكاتب أن يبدأ بعد المقدمة بورقة عن إرث المغفور له جلالة الملك الحسين وصنع السلام في الشرق الأوسط. ثم عن السياسة الخارجية الأردنية في أزمة الخليج (احتلال الكويت) لينتهي بأحداث الربيع العربي وملابساته وتطوراته.