هروب إلى غزة ومنها!
يحقق ضرب غزة وقصفها والقيام بعملية عسكرية هناك، بالنسبة للإسرائيليين، أهدافا سياسية ودعائية عديدة. لكن هذا ليس من دون ثمن. ما يسعى إليه الإسرائيليون هو خلط الأوراق بين جبهات أراضي الاحتلال الأول (1948)، والجزء الشمالي من أراضي الاحتلال الثاني-1967 (ما يسمى الضفة الغربية-المحافظات الشمالية، بحسب تسميات السلطة الفلسطينية، والجزء الجنوبي ممثلاً بقطاع غزة).
بالنسبة للإسرائيليين، فإنّ إدخال غزة للحرب يحقق عدة أهداف. أولها، أن يقال للعالم إنّ الحرب بين جيش يدافع عن مواطنيه ضد صواريخ تأتي من أراضٍ تم الانسحاب منها إسرائيليا بمبادرة من طرف واحد. وبالتالي، يصبح الموضوع وكأنّه بين "جيشين"، أو بين "إرهاب" و"دولة"، وليس بين مواطنين تحت الاحتلال، وقوة احتلال. وكذلك أن يقال إن المشكلة الحقيقية هي حركة "حماس"، وليس شعبا ينتفض مطالبا بحريته وأمنه الحقيقي ضد الاحتلال. كما يحرف ذلك الانتباه عن هبّة في داخل أراضي الاحتلال الأول (1948)، والتي تكشف للعالم أنّ الوضع لم يستتب في أي مكان في فلسطين. هذا فضلا عن حرف الانتباه عن جرائم الاستيطان والمستوطنين، وعن انتفاضة فلسطينية تلوح في الأفق هناك. وطبعاً، فإن الخسائر التي قد توقعها صواريخ الفلسطينيين هي ثمن يمكن أن يدفعه الإسرائيليون.
رغم أنّ الفصل بين مناطق الوطن الفلسطيني الثلاث: (48، 67 شمال، و67 جنوب)، هو سياسة إسرائيلية؛ ورغم مخططات خلق مكانة قانونية وسياسية وبنى تنظيمية مختلفة لكل جزء من هذه الأجزاء، إلا أنّ الإسرائيليين يهربون في هذه المواجهة الراهنة، كما في مواجهات سابقة، إلى غزة الآن لخلط الأوراق، لأنّ الادّعاء بأنّ غزة جزء من المعركة يوفر غطاءً لشن حرب واستخدام أدوات الجيش التقليدي بأشد تشكيلاتها ضد المدنيين بذريعة الصواريخ، ولتهميش النضال الشعبي الفلسطيني القائم بأساليب غير عسكرية.
في المقابل، لا تقوم القيادات السياسية الفلسطينية بالتقاط الخيط، ووضع خطة تعامل مع هذا الخلط الإسرائيلي.
هناك علامات استفهام متزايدة عن سبب عزوف الحكومة الفلسطينية في رام الله، عن تعاطٍ أكثر فاعلية مع المحافظات الجنوبية (غزة)؛ لماذا لم يزرها لا رئيس الدولة، ولا رئيس الحكومة، ولا الوزراء حتى الآن؟ والفرصة متاحة بعد إنهاء الانقسام وانسحاب "حماس" من المشهد الحكومي، وقبول العالم، بما فيه الولايات المتحدة الأميركية، بالتشكيل الحكومي الجديد.
لماذا لا تذهب الحكومة-قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، إلى غزة وتعلن مواقف من هناك بشأن العملية العسكرية الراهنة، وتقرر هدنة ووقفَ إطلاق نار، وكل ما هو مطلوب لمنع الإسرائيليين من أخذ غزة رهينة، وتنفيذ مخططهم بخلط الأوراق وتشويه المقاومة الشعبية في باقي فلسطين؟! لماذا لا تنعقد اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في غزة؟ لماذا لا يُدعى مسؤولون عرب للذهاب إلى غزة، وتُعلن من هناك مبادرة لتحييدها؟
أهمية تحييد غزة حاليا أنّها تعني نزع ورقة يلعب بها الإسرائيليون لكسب المعركة سياسيا وعسكريا. وتحييد غزة سيؤدي إلى تركيز الجهد والضوء على ما يحدث في باقي فلسطين (48 و67)، وبالتالي تشكيل أجندة الحدث اليومي وقواعد المواجهة دولياً؛ ميدانيا وسياسيا، على أسس تضع الأمور في نصابها: انتفاضة ضد الاحتلال، وضرورة تدخل المجتمع الدولي لمواجهة إسرائيل.
لقد أثبت أهالي القدس (مجددا)، كما أهالي فلسطين المحتلة العام 1948، أنّ الحديث عن ذوبان وتذويب واستكانة في مواجهة الاحتلال هو وهم. وأثبتت الأيام الأخيرة أنّ وضع الضفة الغربية والترتيبات الأمنية، والبنى الاستيطانية من قوات وطرق وتقسيم للأراضي (أي كل ما نشأ بعد اتفاقيات أوسلو)، تربك فكرة المواجهة الميدانية المقاومة ضد الاحتلال، ولكن من دون أن يعني هذا استحالة إيجاد آليات للمواجهة. وشيئا فشيئاً، يكتشف الشبان الفلسطينيون قواعد جديدة للمواجهة ضد الاحتلال. وباتت المناطق التي لا يسمح للسلطة الفلسطينية التواجد فيها هي مناطق المواجهة؛ أي القدس، وأراضي 1948، والمناطق المصنفة (ب) في الضفة الغربية. وإذا كانت هذه المناطق هي التي تنشأ فيها حاليا بؤر المواجهة الميدانية، فمن غير المستبعد أن تشهد أيضا نشوء تشكيلات سياسية وقيادات ميدانية، تتشابك وتفرض إيقاع المرحلة المقبلة.