مد الأيادي لبيعة البغدادي: البعرة تدل على البعير
عبد المتين حميد
لم تكد تتلاشى حالة الارتباك الفكري و النفسي التي غشيت شعوب المنطقة طيلة السنوات الثلاث الماضية, إلا و تكاثفت من جديد و بقوة مع تسليم الموصل لـداعش. تصاعدت الهستيريا و الصراخ من قنواتٍ تمرّست مخاطبة منطقة اللاوعي في عقول المشاهدين فارتفعت نسبة الأدرينالين و استحضرت الغرائز و غُيّبت العقول و انهارت النفوس و خُيّل للمتلقي أنّ داعش قد سيطرت على بغداد بعد أن انتهت من دمشق. كان من الأجدر بالإعلام المضاد - إِن وُجد - استحضار التجربة السورية-العراقية في تحرير معبر اليعربية من أيدي جبهة النصرة أواخر 2013, و بث فيديوهات للعديد من عمليات جيشنا السوري المميّزة في اختراق و تدمير العديد من فرق التنظيمات الإرهابية التي لم تعد تشغل بال الجيش السوري, فالتخلص منها هو مسألة وقت لا أكثر. المثير للقلق هو انكشاف حالة الشعب المحبِطة و فقدانه للوعي الثقافي و السياسي الذي يقيه من الوقوع في هاوية السقوط النفسي الناشئ عن العويل الإعلامي.
لا ترتبط داعش بطائفة دون غيرها و لا بدين دون سواه و لا هي ابنة اليوم و لا البارحة. تتجذر داعش في تاريخ المشرق العربي مستمدة طاقتها من المماحكات السياسية و الفتاوى الدينية و مخلفات الحملات الصليبية و الاحتلال العثماني. هذه العوامل مجتمعة تشكل المكون الثقافي الديني الراسخ في لاوعي المواطن المشرقي, و الفئات الحاكمة دأبت وما تزال على حظر الخوض في هذا الموروث و منع مناقشته و تصويبه, ليس خشيةً من رجال الدين فهي التي تعيّنهم, بل مخافة أن يؤدي ذلك إلى امتلاك الشعب للوعي الثقافي و السياسي القوي. عوضاً عن ذلك تلجأ أنظمة الحكم, و بالاستعانة بهذا الموروث, إلى حشو المواطن بوطنية عصبية بدائية هشّة يرتبط فيها حسن البنا يقبل يد ملك السعودية عبد العزيز آل سعود الولاء للحاكم بالولاء للوطن, و من ثمّ ترسيخ هذه الفكرة في اللاوعي الشعبي عبر المهرجانات سواء كانت للرقص بالسيف (كالجنادرية في السعودية) أو للتصفيق (مثل جوهر في الخربة) أو للتحذير من الإرهاب المحتمل (في الولايات المتحدة) أو غير ذلك. فيما بعد و مع حظر التفكير يسهل على الحاكم استحضار غرائز الشعب و استثارة مشاعره و تهييجه وقت اللزوم كما في حالات نزول الناس للشوارع تحت عنوان الثورة و محاولات تصعيد العنف الطائفي و العنف المضاد و جرّ الشعب إلى جحيم الحرب الأهلية.
رحلة البحث عن بذور داعش تبدأ من كتاب ’مد الأيادي لبيعة البغدادي’ الصادر العام الفائت المنسوب لشخص بحريني يدعى أبو همام الأثري الذي يثبّت فيه إمامة أبو بكر البغدادي للمسلمين بالاعتماد على فتاوى توجب طاعة السلطان المتغلب و مبايعته و الجهاد معه و تأثيم من يتخلف عن بيعته. في العام 1998 أصدر بن لادن بيان تشكيل "الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين". قبلهم تحدّث سيد قطب عن جيل قرآني فريد في كتاب ’معالم في الطريق’ المستند على متتالية حسن البنا (أسرة مسلمة, مجتمع مسلم, دولة مسلمة, و أستاذية العالم)، و بينهما كتب الهندي أبو الأعلى المودودي عن "الحاكمية". هؤلاء و كثيرون غيرهم يرددون شعار الإسلام هو الحل و لو طُبّق المنهج الإسلامي لعاش المسلمون في حرية وعدل ورخاء دون أن يشرحوا كيفية تطبيق المنهج الإسلامي وكيف ستكون الحاكمية. يتحدثون عن دولة الخلافة الإسلامية المثالية القوية الأسطورية دون أن يشرحوا الدور الحضاري المنوط بهذه الدولة أو يصفوا النموذج الذي ستقدمه للعالم. بالرجوع إلى بداية القرن العشرين حين نبشت بريطانيا فتاوى ’الطائفة المنصورة’ لابن تيمية الذي أسست بناءً عليه جماعة مسلحة بدوية اسمها "إخوان من أطاع الله" بقيادة عبد العزيز آل سعود, وبعدها أنشأت حركة الإخوان في مصر على يد حسن البنا الذي قدم أولاً ولاء الطاعة لعبد العزيز آل سعود. العثمانيون بدورهم تبنوا فتاوى شرعية من شيخ الإسلام بحكم "قانون الفاتح" تبيح قتل إخوتهم. وقبلهم العباسيون و الأمويون مع أول حاكم استخدم اسم الإسلام لقتل معارضيه و هو الخليفة عبد الملك بن مروان الذي خرج على عبد الله بن الزبير و قتله واستولى على الحجاز والعراق وأهلها حتى بايعوه طوعًا وكرهًا، فصار إمامًا يَحرم الخروج عليه, ثم خطب على منبر الرسول في المدينة قائلاً: "والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه". و قبله الحجاج قاطف الرؤوس اليانعة ضارب الكعبة بالمنجنيق و لم يجد من يأمره بتقوى الله. إلى كربلاء و مصرع الحسين بن علي حيث وُجد من يبرر جريمة يزيد بن معاوية بفتواه "إنما قتل بشرع جدّه", إلى نائلة زوجة عثمان بن عفان التي أرسلت بعد مقتل الخليفة كتاباً إلى معاوية في الشام مرفقاً مع قميص عثمان الممزق المليء بالدم مع خمسة أصابع مقطوعة تحمد الله الذي هداه من الضلالة وأنقذه من الكفر طالبةً منه ألّا يبايع من يؤوي القتلة.
بالعودة إلى الوضع الراهن على الأرض لا شيء يدعو للبلبلة, و ما من شيء أبلغ لوصفه من افتتاحية ’قصة مدينتين’ لتشارلز ديكينز: "كان أفضل الأوقات، و كان أسوأ الأوقات. كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة. كانت حقبة الإيمان، وكانت حقبة الشك. كان موسم النور، وكان موسم الظلام. كان ربيع الأمل، وكان شتاء اليأس. كان لدينا كل شيء، و لم يكن لدينا شيء .كنا ذاهبين جميعاً مباشرةً إلى الجنة ، وكنا ذاهبين جميعاً مباشرةً إلى الجهة الأخرى".
سياسياً, يتهم المحافظون الجدد الرئيسَ الأمريكي باراك أوباما بأنّه السبب الرئيس في ظهور داعش, فلولا سحبه القوات الأمريكية من العراق لما ظهرت. يرد عليهم بأنّ داعش هي النتيجة المباشرة لحرب بوش على العراق, فقبل الغزو لم يكن لهكذا تنظيمات من وجود في العراق, و لولا مغامراتكم في الشرق لما كان هناك تنظيمات إسلامية جهادية. أمنياً, تحذر التقارير الاستخباراتية الأمريكية من قيام داعش بتجنيد مقاتلي جبهة النصرة في اليمن و حركة الشباب في الصومال, تتابع هذه التقارير أن لا خوف طالما بقيت داعش بعيدة عن الأرض الأمريكية, و ستعمل واشنطن على محاربتها, لا عن طريق جيوشها, بل عن طريق الـ 9600 جندي من الجيش السوري الحر الذين تدربهم حالياً في الأردن و ستنتهي من ذلك في أواخر هذا العام. يضيف خبراء بأنّ أوباما كان صائباً في تراجعه عن التدخل العسكري المباشر في سورية و كما أنّ الإدارة الأمريكية ستمتنع عن تزويد أي نوع من المعارضة السورية بالأسلحة المتطورة خشية وقوعها في الأيدي الخاطئة كما حصل في الموصل و يختم الخبراء بأنّ الوقت قد حان لإنهاء الحرب المأساوية في سورية.
ما حدث في العراق يقترب من أن يكون حدثاً جيوبوليتيكياً استثنائياً جرف حدود الـ 1916 غالباً إلى غير رجعة. داعش كتنظيم هشّة و فارغة و لا تملك ما يكفي من المقاتلين لفرض سيطرتها على جغرافيا واسعة تمتد من الباب في حلب إلى الموصل, و التحالف القائم مع بعث العراق و أتباع عزت الدوري هو تحالف أجوف لن يستمر و قد ظهرت ملامح انهياره البارحة في الاقتتال فيما بينهم. داعش كفكرة و التي ما لم يواجه موروثها بشكل عقلاني و بجرأة و ما لم يصوَّب فإنها باقية و تتمدد.