الكاتب القومي فهد الريماوي يكتب : عودة مصر وافول الحقبة السعودية


"اخبار البلد - وان تعدوا نعمة الله، لا تحصوها"، وان ترصدوا منافع وفوائد الحالة الثورية العربية الراهنة، فلن تحيطوا بها، فهي فوق العد والرصد، وهي اكبر من الاحصاء والاستقصاء، اذ يكفي انها قد طهرت مصر وتونس من نظامين فاسدين مستبدين، وثورت الشارع العربي من المحيط الى الخليج، وغيرت نظرة العالم للعرب بل غيرت نظرة العربي لنفسه، وتثمينه لقدره، وممارسته لدوره، وتعريفه لمسؤوليته·

واذا كانت الانجازات الثورية المتحققة على مساحة شهر واحد قد فاقت الخيال واقتربت من حدود المحال، فلعل الآتي من الانجازات ان يقترب من تخوم المعجزات، وان يطال انظمة وحكومات حسبت نفسها خالدة ومؤبدة في حصون مشيدة، واعتبرت شعوبها قطعاناً من العبيد والازلام والاغنام، وتوهمت ان سر بقائها يكمن في الولاء للمراكز الصهيونية والامريكية، والاستهانة بالقوى الوطنية والقومية·

منذ انحراف انور السادات عن جادة المبادئ الناصرية، وجنوحه للسلم مع العدو الصهيوني والاستسلام للمشيئة الامريكية، ضاعت مصر وغربت شمس الامة العربية·· غاصت في دياجير ليل بهيم رغم كل الانتفاضات الشعبية في فلسطين، والانتصارات اللبنانية على يد حزب الله، والصمود الباسل لسوريا وعراق ما قبل الاحتلال·· ذلك لأن غياب مصر كان يعني غياب العمود الفقري للامة العربية، والرافعة العملاقة للمشروع العربي الوحدوي والنهضوي·

في غياب مصر الثورية التي اعتقلها السادات في سجن كامب ديفد اواسط عقد السبعينات، تقدمت السعودية الثرية والرجعية لقيادة الامة العربية، واعتبرت ان ردة السادات عن الخط الناصري، وانحيازه للمعسكر اليميني والامبريالي، وتقزيمه لدور مصر العربي والعالمي، يوفر لها كل اسباب القفز الى عربة القيادة العربية، والانحراف بها نحو مهاوي التبعية والتخلف والضعف·

لاكثر من ثلث قرن هيمنت الرجعية السعودية على مقاليد الامة العربية، وحلت الثروة محل الثورة، والرشوة محل القوة، والبداوة محل الحضارة، والسلفية الوهابية محل الروح الوطنية والنزعة المدنية، وهو ما ادى الى اضطراب القيم، وتبدل الاولويات، وتقهقر المبادئ، وتفشي آفات النفاق والارتزاق والردة والسمسرة والمتاجرة وباقي مكونات الدونية والانحطاط·

طوال غيبة مصر عن دورها وعن امتها، امعنت القيادة السعودية فساداً في الارض، وتآمراً على شرفاء العرب، وعبثاً بمقدرات الأمة، وتمكيناً للنفوذ الامبريالي، وتشويهاً للفكر القومي والتقدمي·· وكما سبق ان تآمرت مع امريكا واسرائيل عام 1967 على عبد الناصر، فقد تآمرت على حافظ الاسد في عقد الثمانينات، ثم على صدام حسين منذ مطلع التسعينات حتى اوصلته الى حبل المشنقة، ثم على حزب الله الذي دمغته علناً عام 2006 بالمغامرة والتهور رغم انه احرز انتصاراً مجيداً على العدو الصهيوني·

على مدى كل تاريخها المعاصر، لم تشهد الامة العربية ضعفاً وهواناً وتمزقاً وتخلفاً كما شهدته تحت ظلال الزعامة السعودية، ولم تنحدر مسيرة الفن والفكر والثقافة والادب كما انحدرت في اطار الحقبة القيادية السعودية، ولم تتقهقر قيم الحق والحرية والكرامة والحداثة والتقدم والعدالة الاجتماعية في طول الوطن العربي وعرضه كما تقهقرت في زمن الوصاية الرجعية السعودية، ولم تستفحل ظاهرة شراء الذمم والضمائر والمواهب والاقلام وحتى بعض الحكام كما ازدهرت على ايدي دهاقنة النفط في السعودية·

كانت هذه القيادة بمثابة كابوس ثقيل جثم قرابة ثلث قرن على صدر الامة، واوشك ان يزهق روحها ويخمد انفاسها ويقتل عزمها وعقلها، لولا انها امة عريقة وعظيمة وعصية على الانحراف والاستسلام·· ذلك لانها امة التاريخ التي قد تستكين ولكنها لا تخون، وقد تكبو ولكنها لا تموت، وقد تهادن ولكنها لا تفرط، وقد تصبر وتتحمل ولكنها ما تلبث ان تفاجئ الدنيا باعنف الثورات والانفجارات والانتفاضات التي سرعان ما تقلب كل الحسابات، وتنسف كل المعادلات، وتغير كل التوقعات·

بالضبط، هذا ما وقع منذ بضعة اسابيع، فبعد سبات طال أمده، وخضوع تعددت اسبابه، وتهاون اتسعت شقته، انفجرت الثورة الشعبية التونسية، ودوت صفارات الانذار في سائر ارجاء العالم، وانتقلت مشاعل الثورة من قطر عربي الى آخر، ولم يجد الرئيس التعيس ابن علي الذي فر من بلاده تحت جنح الظلام له مقراً او مستقراً الا في بلاط الرجعية السعودية التي دأبت، منذ هيمنت على مهابط الوحي، على نصرة العملاء ومحاربة الشرفاء·

بعدها وقع الزلزال الاكبر، واستعادت مصر الكنانة عزيمة عبد الناصر، واحمد عرابي، وسعد زغلول، وتحول شباب ثورة 25 يناير الى مراجل غضب اسقطت حسني مبارك عن عرش فرعون وقارون، وارسلته ذليلاً مهزوماً الى شرم الشيخ القريبة من اصدقائه في السعودية واسرائيل، واعادت مصر الى وجهها المشرق، ودورها الكبير، وسدة القيادة العربية والريادة القومية والتقدمية·· منهية بذلك، في ضربة واحدة، عهد الوصاية الرجعية السعودية التي استطاعت، عبر المال النفطي والفكر الوهابي والمكر الصحراوي، اعادة عقارب الساعة العربية الى عصور العبودية والجاهلية·

سقط نظام مبارك، وسقطت الحقبة السعودية، وسقط الاعتدال المشبوه، وعادت مصر الحرة والعربية الى مقدمة المشهد السياسي والثقافي، وعادت معها روح التقدم والعطاء والابداع، ورياح الثورة التي ستهدد قلاع الرجعية السعودية والخليجية في عقر دارها، فلا عاصم بعد اليوم لهذه القلاع من الاقتلاع، ولا محيص لانظمة الرجعية من الانهيار على ايدي ابناء شعوبها الذين حسبتهم مرتزقة او متسولين يمكنها رشوتهم وشراء ولائهم لقاء فتات المعونات المالية، وبعض المناصب والامتيازات الهامشية التي لا مجال للمقارنة بينها وبين المليارات المنهوبة والمواقع الاولى والامتيازات الاسطورية التي تستأثر بها هذه الانظمة المستبدة والامية والتعسفية·

فكما تسببت ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين في سحب البساط القيادي العربي من تحت اقدام الرجعية السعودية، واسقاط هيمنتها على المقدرات العربية لاكثر من ثلث قرن، فلسوف تتسبب ايضاً في ايقاظ الشعب العربي -والمسمى بالسعودي- في الجزيرة، وكسر حاجز الخوف والرهبة لديه، ورفع منسوب ارادته ومعنوياته كي يهب، ذات وقت قريب، لرفع نير القهر والظلم والطاعة العمياء عن كاهله، وصناعة المستقبل الحداثي والديموقراطي والعروبي اللائق به، واداء صلاة الجماعة مع باقي الشعوب العربية الثائرة والمتحررة·

غير معقول، ونحن نغذ الخطى فوق ارض القرن الحادي والعشرين، ان يبقى شعب جزيرة العرب التي انجبت اعظم الانبياء والحكماء والشعراء، والتي تحج اليها الملايين من سائر بلاد المسلمين، بلا دستور، ولا برلمان، ولا حريات، ولا انتخابات، ولا احزاب، ولا نقابات، ولا حتى رخص سواقة للنساء·

غير معقول جمع الصيف والشتاء على سقف سعودي واحد، او العيش في القرن الحادي والعشرين بذهنية العصر الحجري، او التسليم بحكم الاسرة السعودية المطلق والابوي والسلفي، فيما هبط الانسان على سطح القمر، وتنعمت البشرية بانسام الحرية والعصرنة والعدالة والديموقراطية !!