الهدف التالي لـ «داعش»
ليس اختراقاً أمنياً على أهميته، ولا هو من النوع القابل للاحتواء والمعالجة في غضون أسابيع أو أشهر معدودات ... إنها دولة "داعش” الإسلامية، إذ تُدخل العراق والمنطقة في نفق طويل من الانقسام المذهبي والطائفي، وفي مسلسل دامٍ من الحروب المتنقلة ومعارك الكرِّ والفرِّ ... عراق ما بعد "غزوة نينوى” لن يعود إلى ما كان عليه، مهما خلصت النيّات وصلُحت، وأحسب أن المنطقة برمتها بعد "غزوة الموصل” لن تبقى كما كانت قبلها.
المسار السياسي للحل مطلوب وضروري ... لكن أيا من القوى السياسية السنيّة لها القدرة والنفوذ على الأرض، وبمقدورها إصدار التعليمات وإعطاء الأوامر للقوى المحاربة في المحافظات السنية والمختلطة الست؟ ... وحتى بفرض أن نوري المالكي أو غيره من المرشحين لتشكيل حكومة التوافق الوطني، قرر إدماج القوائم السُنِّية في العملية السياسية، فهل يمثل إياد علاوي وأسامة النجيفي وجمال كربولي وحتى نواب الحزب الإسلامي الأحد عشر، المقاتلين السنيين في نينوى وديالى وصلاح الدين والأنبار وبغداد وكركوك؟
وإذا ما أخذنا بالرواية التي تقول إن المسلحين في هذه المحافظات، ليسوا "دواعش” بالضرورة، وهي رواية صحيحة، وإن كانت لا تحجب حقيقة أن "داعش” أكثرمن غيرها، هي القوى الضاربة والقائدة للأعمال القتالية، وأنها هي من يمسك الأرض ويجبي الضرائب ويفرض "الأحكام الشرعية” في المناطق "المحررة” ... السؤال: من يمثل حزب البعث وبقايا الجيش القديم ومقاتلي الطريقة النقشبندية ومجلس المجاهدين وأنصار السنة وغيرهم من المجاميع الجهادية والعشائرية في المناطق الخارجة عن سيطرة حكومة بغداد الاتحادية؟
معظم القوى المقاتلة، مصنَّفة في خانة "الاجتثاث” أو "الإرهاب”، ومعظمها -إن لم نقل جميعها- لا يعترف بالعملية السياسية ولا يقبل بها، ولم يتعامل مع نتائجها وما انبثق عنها من مؤسسات وانتخابات وتشريعات ودساتير ... كيف يمكن لهذه القوى أن تلقي سلاحها أرضاَ، وأن تستجيب لنداءات الحكمة وصوت العقل، ودعوات التوافق الوطني مع "العدو في الدين والقومية”، من شيعة "روافض” إلى "فرس” و”مجوس”؟
قد يقول قائل، صحيح، ولكن الرهان ينعقد على خلق فجوة بين هذه القوى المتشددة والمسلحة من جهة، وقواعدها الشعبية من سنة العراق العرب من جهة ثانية، وهذا أمر نجيزه ونوافق عليه، بل وندعو لتعميق الفجوة بين شقي المعادلة ... لكن السؤال: كم من الوقت سيمضي قبل أن تتحقق أهداف من هذا النوع، وهل سيمنع ذلك القوى المسلحة على اختلاف مشاربها، خاصة "داعش” من اختطاف هذه المحافظات وبناء عناصر القوة والاقتدار فيها، والدخول في حرب مفتوحة مع حكومة بغداد وجيشها، وربما لسنوات طويلة قادمة؟
قد يقال -ونحن من المراهنين على ذلك- إن مرور الوقت سينهي "شهر العسل” بين "داعش” وحلفائها، الذين هم في واقع الحال أعداء إيديولوجيون أشداء لها، كالصوفيين والبعثيين ... وأن عامل الوقت، لن يلعب لصالح هذه القوى وحاضنتها السُنِّية، الأمر الذي يدفع الى الاعتقاد بأن "المناطق المحررة” لن تعرف الاستقرار، وأنها ستتجه بسرعة لطلب العودة إلى حضن الدولة والحكومة الاتحادية.
لكننا ونحن نرى هذا السيناريو بعناصره المختلفة، نرى في المقابل، صور "المليشيات الشيعية” التي تُجري الاستعراضات العسكرية بعشرات ألوف العناصر في الشوارع والميادين، بشعارات ورايات وخطابات مذهبية صرفة ... نرى الجيش الذي مُني بهزيمة الموصل "الحزيرانية”، يعاد تركيبه على أسس مذهبية، تلبية لدعوة المرجعية، وبإشراف من كان جزءاً من المشكلة بدل أن يكون جزءاً من الحل ... مثل هذا التطور، سيمنع تبلور إرادة وطنية جمعية في المحافظات المتمردة، وسيضعف وزن ودور القوى الوطنية والديمقراطية والمؤمنة بالعملية السياسية، وسيعمق النزعات المذهبية والأصولية، التي ستتعامل مع "الجيش الاتحادي” بوصفها ميليشيا شيعية مقنعة أو جيش احتلال غاشم... ما يعني أن الطريقة التي عالجت بها حكومة المالكي الهزيمة في الموصل وصلاح الدين، ستتسبب بخلق مشكلة أكبر، ربما تمتد بامتداد خطوط التماس المذهبي في عموم العراق، وسيقلص ذلك من فرص نجاح الحكومة باستعادة السيطرة وزمام الأمور والسيادة، وسيدفع للخلف بصورة العراق الموحد، وقد نصل بعد طول معاناة، إلى صيغة فيدرالية هي أقرب لتقسيم العراق وتقاسمه، منها إلى استعادة وحدته ولحمته.
قد يفضي الحراك السياسي الإقليمي والدولي النشط، إلى تشكيل حكومة عراقية جديدة، برئاسة المالكي أو غيره، لكن السؤال عن قدرة هذه الحكومة على استعادة هذه المناطق، وفي الوقت المعقول، قبل أن يستفحل نفوذ "داعش” وتتوطد دعائم إمارتها الإسلامية، سيظل هو السؤال المفتوح، الذي لا جواب شافيا عليه حتى الآن، لا سيما في ظل تفشي حالة الارتباك الإقليمي والدولي المحيطة بالتطورات العراقية الأخيرة.
وفي ظني أن "داعش” هي أكثر من يدرك هذه الحقيقة، ويتصرف مع "دولتها” الممتدة بامتداد "حوض الفرات”، وفي سوريا ولبنان معاً، ستعمل على "تمكين” سيطرتها وحكمها ... لذا رأيناها تتردد في مهاجمة مناطق الأكراد وخطوطهم الحمراء، وتبتعد عن سامراء ومناطق النفوذ الشيعي الرئيسة برغم التهديدات اللفظية المتكررة، رأينا تهتم بمصفاة "بيجي” أكثر من اهتمامها بمراقد الأئمة ... لكأنها تريد أن ترسم خطوطاً لوقف إطلاق النار، أو تنشئ حدوداً دولية على امتداد خطوط الطوائف والمذاهب والأقوام، وبقوة الأمر الواقع.
"داعش” تموه على خططها وأهدافها اللاحقة، فهي تهاجم للإشغال على جبهة، بينما تفتح جبهة ثانية بعيدة تماماً عن الأولى، وهذا ما فعلته عندما هاجمت سامراء وجامعة الأنبار للتعمية على اجتياحها للموصل ... واليوم تتوعد بغداد والنجف وكربلاء”، لكن عيون قادتها تتطلع إلى مناطق أخرى، فأين ستتوجه "داعش” بضربتها التالية؟