ملوخية


الصيف كان بيلساناً لنا، وجنة عرضها بعض مرحنا، وطولها شقاواتنا العابرة للحارات والأزقة، كان صيفاً يانعاً يبرد لنا ويطيب كريق الحبيب، حتى هذا القيظ يصيرُ بأصابعنا فردوساً زاهرةً، بعد أن نهرع لجداول الماء بين البساتين نمخرها بأجسادنا المكتفية بعريها المنزلق، فنتبلبط كسمك نُزع للتو من روح الماء!.
الصيف أبو بهجتنا وأمها، فيه نسرق ما طاب لنا من ماء البراميل والجرار خلسة عن عين الأمهات؛ لنجبل طيناً نشيّد به بيوتاً تطاول أحلامنا الخافتة، ونقيم أعراسنا شبه الخجولة هناك، الصيف ربيعنا الخالص إذ لا مدارس تقلقُ صباحاتنا الكسولة، ولا آباء نزقين عصبيين، يجبروننا على نوم كنوم الدجاج بعد العشاء!، بل كنا نعتلي صهوة البيوت ليلاً، نندس بفراش خفيف، ثم نسامر غيوم الندى الناعمة، ونمعن عداً بالنجوم رغم تخويف الجدات!.
لم تكن (المولات) والأسواق الكبرى المكيفة محجا لأمهاتنا الطيبات، بل كان الصيف يجعلهن قرية نمل تعجُّ بالنشاط والحركة، فأول الموسم يشغلهن القمح، بتنقيته من التراب والزوان، ثم يسلقنه؛ لتحويله إلى (برغل)، بعد التجفيف والجرش، ثم تأتي طقوس تحضير مرطبانات اللبنة البلدية، إذ (يشخلن) اللبن الرايب في كيس قماش كان يسمى ( خريطة)، فيتخلص من مصله، ثم يكورن اللبنة كثيفة القوام على شكل طابات يغمرنها بزيت الزيتون، ونحن كنّا نتمسكن ونتذلل، ونتمسح بهن كقطط بريئة، من أجل لعقة لبنة من طرف أصابعهن!. 
والصيف كان موسماً للملوخية بامتياز، فالحارة كلها تشتري من ذات السيارة الجوالة (عبطات) كبيرة منها، لتعكف الأمهات بعد أن يتركننا نسرح في ملكوت الله كالقطط الهائمة، يعكفن في خلوة لتشرّطها ضمن مؤتمرات خاصة تحت شجرة التوت أو الليمون، في حوش إحدى البيوت، تتخللها جولات مطولة من الثرثرة، وكنا كلما اقتربنا من حلقتهن متسللين يأخذن بالهمس المتناقص، وكأنهن يخفين سراً عظيماً، ثم يطردننا بفيض من الشتائم الخاصة بالآباء الغائبين. فيا ترى بما كن يهمسن، وعلام اتفقن؟!.
كانت مؤتمرات أمهاتنا الصيفية تسفر في نهايتها عن خزين استراتيجي من الملوخية الناشفة، تفيدنا في الشتاء كطبخات لذيذة، ولكن كثيراً من المؤتمرات العامرة برفاهية الخمس نجوم أو السبعة، لم تسفر في نهاياتها إلا على توصيات بمؤتمرات ثرثرة أخرى؛ لتتوالد من بعدها المؤتمرات، ثم المؤتمرات، والتوصية بمؤتمرات أخرى، وأخرى!.