عندما كنت في مهمة في ليبيا

 

 

 

 

أتابع باهتمام بالغ ما يحدث في ليبيا و لشعبها الغالي الصبور الثائر ضد الطاغية و عصابته ، و استرجع في خاطري الزيارة الأولى إلى أرض ليبيا في 15 تموز 1984 ، بتكليف من المنظمة العربية للتنمية الزراعية و ترؤس فريق من الخبراء العرب المتميزين لإجراء دراسة الجدوى الفنية و الاقتصادية لمشروعات الدواجن بالجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية.

 

كنت أعرف أنها مهمة شاقة كما علمت من أصدقاء كانت لهم تجاربهم الاستشارية في البلد الشقيق ، إذ يتطلب أن يتمتع رئيس الفريق و فريقه بصفات غير قدرتهم على أدارة الفريق بل معرفتهم بواقع ليبيا الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي ، و قد أعددت نفسي و الفريق لكل المفاجآت أو الصعوبات الوهمية المتخيلة أو الواقعية. و أخذت على عاتقي قراءة الكتاب الأخضر.

 

و أذهلني ما وجدت فيه من أفكار غريبة لم أكن أطلع عليها من قبل سواء في دراستي الأكاديمية أو من مطالعاتي. و ما زلت حتى اليوم أحتفظ في مكتبي بالنسخة التي حصلت عليها آنذاك و استعنت بها في التحليل الاقتصادي والمالي لمشاريع الدواجن.

 

الكتاب الأخضر للقذافي يتكون من ثلاثة أركان الأول: الديمقراطية - سلطة الشعب و الركن الثاني: الاقتصادي - الاشتراكية و الركن الثالث: الاجتماعي للنظرية العالمية الثالثة. و قد أسس المركز العالمي للدراسات و أبحاث الكتاب الأخضر . ليس الوقت بكاف أن نقف حول تكلفة مراكز الكتاب الأخضر في ليبيا و أفريقيا بالإضافة إلى الدراسات ، أو الغوص في مضمون الكتاب الأخضر و خاصة بعد فوات الأوان. و لكنه قد يكون من "المسلي" للقارئ توثيق مقتطفات منه. ففي أقوال من الركن الديمقراطي: المجلس النيابي تمثيل خادع للشعب ، و النظم النيابية حل تلفيقي لمشكلة الديمقراطية. إذا انبثق المجلس النيابي عن حزب نتيجة فوزه في الانتخابات فهو في هذه الحالة مجلس الحزب و ليس مجلس الشعب. الحزب هو أداة الدكتاتورية الحديثة. الاستفتاء تدجيل على الديمقراطية. أما أقوال الركن الاقتصادي: العمال شركاء لا أجراء. الأرض ليست ملكا لأحد و لكن يحق لكل واحد استغلالها للانتفاع بها. المنزل يخدمه أهله. و من الأقوال في الركن الاجتماعي: المرأة أنثى و الرجل ذكر ، لذلك يقول طبيب أمراض النساء أنها تحيض أو تمرض كل شهر ، و الرجل لا يحيض لكونه ذكرا. السود سيسودون في العالم. إن التعليم الإجباري و التعليم المنهجي هو تجهيل إجباري في الواقع للجماهير. الرياضة الخاصة لا تهم إلا من يمارسها و الرياضة العامة تخص كل الجماهير ، أما الملاكمة و المصارعة بأنواعها فهي دليل أن البشرية لم تتخلص بعد من السلوك الوحشي. هذه أفكار القذافي و كانت من المحرمات ، إذا لم تمدحها ، أن تقترب منها.

 

أعود إلى مهمتي الاستشارية ، فقد قمنا بدراسة مشروعات الدواجن في مناطق طرابلس و بنغازي و سبها و كان لنا شرف الالتقاء بالمزارعين و بالخبراء الليبيين و قد قوبلنا بحفاوة بالغة و بكرم عربي ليبي أثناء أداء عملنا. أشاهد التلفاز هذه الأيام فأذكر المدن الثلاث و المدن التابعة مثل الزاوية و تاجوراء و مصراته و درنه و الجبل الأخضر و الجفرة. مشاريع عملاقة لتربية الدواجن و أرض بين صحراء عطشى و جبال و سهول خضراء. التقينا بأكاديميين من جامعة الفاتح أذكر منهم الدكاترة علي أرحومة و علي امعيزة و خليفة المقدمي. و من الذين كانوا من ضمن الفريق الدكتور علي كانون و المهندس عبد العظيم التركي. و كان الأخير قريبا من نفسي عفويا شعلة ذكاء مرحا. و قد أصر على استضافتي في حفل زواج لأحد أقاربه.

 

 

 

و قضيت وقتا ممتعا بين أهله و تعرفت إلى مراسم الزواج و أكلت (مالحتهم) من قراهم ، حيث أكلنا و نحن جلوس على فرشات من الإسفنج فوق الرمال و نستمع إلى أغانيهم الشعبية الشجية.

 

أقمنا في فندق باب البحر في طرابلس و في أفضل الفنادق في بنغازي و سبها. و سافرنا بين المناطق الثلاث بالطائرة. كان الجو صيفا حارا جدا و بخاصة في سبها. أنجزنا مهمتنا خلال شهر واحد النصف الأخير من شهر تموز و النصف الأول من آب. و لعلكم تذكرون القول( في تموز تغلي المية في الكوز و آب اللهاب). و هذا ينطبق تماما علينا. لم أرهق في مهمة في حياتي كما أرهقت في هذه المهمة و قد أبلينا بلاء حسنا ، و لكنها مهمة قومية و تجربة حلوة لن أنساها و بخاصة و أنا أجلس الآن و أشاهد ما يجري في ليبيا و لشعبها الغالي.

 

كان لي أصدقاء في ليبيا آنذاك و قد التقيتهم عندما كنت أدرس في الولايات المتحدة الأمريكية. و قد يكون من الغريب أنني أعرف عن قرب المهندس محمد فركاش و هو أخ إحدى زوجات القذافي عندما كان رئيسا لنقابة المهندسين الزراعيين.

 

و هو شخص يمكن مناقشته حول الأمور الجارية في ليبيا و بخاصة نظام الحكم. كان الشباب الليبي الذين التقيتهم آنذاك على مستوى عال من الحماس لثورتهم و لكنهم كانوا غير قابلين للحوار بسهولة. كانت أفكار بعضهم متجمدة رغم صدقهم و حبهم لوطنهم. كنت أقول لهم كلاما ناقدا لأحوالهم و نظام القذافي ، و لكنهم رغم الخلاف كانوا يحبوننا و لربما يغبطوننا على ما نتمتع فيه من الحرية و جرأتنا على نقد حكوماتنا. سلام الله على ليبيا و شعبها و سلام الله على أصدقائي هناك حماهم الله.