المأزق التركي والبحث عن دور يخرجها من العزلة الدولية

شهدت تركيا العديد من التحديات الخارجية في الآونة الأخيرة، إذ أصبحت تعاني من تدهور علاقاتها على مستوى العالم عموماً والشرق الأوسط خصوصاً، فبعد سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، وتحييد دورهم في معظم الدول العربية باتت تركيا وهي الحليف الداعم لتنظيم الإخوان في مأزق العزلة الإقليمية وتبددت الطموحات التركية للعب دور إقليمي أكبر في الشرق الأوسط، هذا مما شكل خسارة إستراتيجية كبيرة بفقدان حليف وعمق إستراتيجي إيديولوجي وإقتصادي لتركيا، وأكبر دليل على ذلك إختفاء تركيا في الإحتفال الكبير لتنصيب الرئيس عبد الفتاح السيسي والذي شارك فيه ملوك وأمراء ورؤساء وممثلون من جميع بلدان العالم.
فالسؤال الذي يفرض نفسه بقوة هنا، أين تركيا اليوم من التطورات الإقليمية؟ هل لا تزال تمثّل ثقلاً في المنطقة بعد المتغيرات المستجدة في الآونة الأخيرة؟ فعرض بعض المعطيات داخل تركيا وخارجها يشير إلى أن تركيا تبحث عن دور وعن حلفاء جدد، ولا سيما أن العلاقة مع الحليف الإستراتيجي سوريا، لم تعد على ما يرام، فالسنوات القليلة الماضية كانت كفيلة بإظهار إنكفاء الدور التركي الإقليمي بعد سلسلة من الإخفاقات في أكثر من ملف، إضافة إلى تراجع العلاقة بين تركيا وواشنطن ومعظم الدول العربية، ما حتّم توجهاً تركياً للحفاظ على ما بقي من المكانة، والبدء في البحث عن حلفاء جدد مفترضين للتعويض عن التراجع في العلاقة مع الولايات المتحدة والدول العربية.
بالتالي إن تركيا التي كانت تنهض بسرعة كبيرة في الداخل والخارج تبدو اليوم أمام أزمات داخلية كبيرة وعلاقات سلبية مع دول الجوار الجغرافي، وفي العمق فإن تركيا تشعر بخيبة أمل كبيرة لما آلت إليها سياستها الخارجية ولاسيما تجاه قضايا الشرق الأوسط على وقع تطورات ثورات الربيع العربي، فلم تنجح في إقناع المجتمع الدولي بالتدخل العسكري في سوريا للإطاحة بنظام بشار الأسد، بعدما دخلت تركيا بقوة للإطاحة به وكلفها الكثير من الدعم المادي والمعنوي للمعارضة السورية السياسية إضافة إلى مئات الآلاف من اللاجئين السوريين الذي يشكلون عبئاً ثقيلاً على كاهل حكومة أردوغان وعلى المجتمع التركي، فضلاً عن تورط حزبه في الإتفاق مع بعض المقاتلين الإسلاميين للعبور إلى الأراضي السورية من خلال الأراضي التركية وهو ما يعنى تحول تركيا إلى طرف في الصراع الدائر داخل الأراضي السورية، وكما شهدت العلاقات التركية مع العراق توتراً كبيراً حيث كان لموقف أردوغان من الوضع السياسي الداخلي في العراق والوقوف إلى جانب الكتلة العراقية السياسية أثره الكبير على الواقع التركي الأمر الذي جعل تركيا تظهر وكأنها تقف إلى جانب الطائفة السنية في جو إقليمي متشاحن بالطائفية والإنقسام المذهبي، إلى جانب موقفه من تصدير نفط إقليم كردستان، الأمر الذي يعد تدخلاً في الشأن الداخلي العراقي، أما بالنسبة إلى العلاقات المصرية فقد شهدت تدهوراً شديداً حتى وصل الأمر إلى إعلان السفير التركي غير مرغوب فيه في مصر، بسبب الموقف التركي من عزل مرسي، لذلك كان الملف المصري حاضراً في تدهور علاقات تركيا مع دول الخليج العربي وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، وكان إختلاف مواقف ووجهات نظر تركيا ودول الخليج في الملف المصري سبباً في توتر علاقاتها ببعضها البعض مما زاد من عزلة تركيا الإقليمية، ولا ننسى الخلاف مع الإتحاد الأوروبي الذي يعارض بشدة سياسة التدخل في شؤون القضاء التي يتبعها أردوغان للإطاحة بخصومه في أزمة الفساد الأخيرة التي شهدتها تركيا.
وفي إطار ذلك أدركت تركيا فشل سياستها وبدأت بالشروع في البحث عن توازن جديد، وخاصة بعد أن تحطمت إنجازات حلفائها الإسلاميين في المنطقة وتبددت أحلامها في سوريا وتركها حلفائها الغربيون وحيدة في المنطقة وفي الحرب مع سوريا، ولهذا فإن أردوغان يسعى إلى إعادة تقييم موقع ترکيا الإقليمي في ضوء إخفاقات سياستها في سورية، ولهذا بدأت أنقرة فعلياً بإتخاذ خطوات من أجل التقارب مع إيران والعراق، وخصوصاً بعدما شهدت العلاقات الإيرانية – الغربية تقارباً ملحوظاً بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران حول الملف النووي الإيراني مما أثار مخاوف تركيا في إحتمال فقدان دورها وأهميتها بإعتبارها راعية لمصالح الغرب في المنطقة وعودة ايران إلى الساحة الدولية.
ومما سبق يمكنني القول أن أردوغان مهدد بعزلة دولية وإقليمية في حال فوزه برئاسة تركيا في الإنتخابات المقرر إجراؤها هذا الصيف، وخاصة إن علاقته بالزعماء الأجانب والعرب متوترة للغاية، بما في ذلك الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" وعدد من رؤساء الدول الغربية والرئيس السوري بشار الأسد والرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي" ورئيس الوزراء العراقي نورى المالكي، ورؤساء الدول الخليجية، ومن هنا فإن علاقة رئيس الوزراء الشخصية السيئة مع قادة العالم تضر بمصداقية الدولة وتهدد شبكة مصالحها في المنطقة.
وأخيراً أختم مقالتي بالقول، لقد كشفت طريقة أردوغان وحزبه العدالة والتنمية في التعاطي مع ملفات السياسية الخارجية عن تراجع واضح في الدور الإقليمى وكذلك الدولي لأنقرة التي فقدت القدرة على الفعل والتأثير في الشرق الأوسط ناهيك عن القضايا والملفات الدولية التي شاركت فيها قبل ثلاثة أعوام بفاعلية وفى مقدمتها الملف النووي الإيراني، حتى أن الإعلام التركي المعارض يصفها اليوم بـ "تركيا رجل المنطقة المعزول"، ومن هذا المنطلق تشعر تركيا بخيبة أمل كبيرة لما آلت إليها سياستها الخارجية ولاسيما تجاه قضايا منطقة الشرق الأوسط من خلال فشل سياستها في عدم خلق خلافات مع دول الجوار التي أفضت إلى خلافات عميقة بين السلطنة ومحيطها.