«السريانية»

في أربيل يسمون الشمام «كندورة» أما البطيخ الأحمر فيسمونه «شفتي». في شوارع أربيل تطالع اليافطات التي تدلك على الاتجاه الذي تريد أن تسلكه فتقرأ: كه ركوك (كركوك)، كه ربه لا (كربلاء)، نه جه ف (نجف)،عه نكاوة (عنكاوه). أما عنكاوه هذه فهي بلده صغيرة تقع في شمال غرب مدينة أربيل وتعتبر جزءاً منها فمطار أربيل الدولي الحالي كان في السابق مطاراً عسكرياً باسم مطار عنكاوه. معظم سكان عنكاوه من «الكلدان» ومنهم مريضتي التي كنت قد أجريت لها عملية لاستئصال ورم دماغي حميد في الأردن، والتي علمت بمشاركتي في مؤتمر طبي في مدينة أربيل فجاءت لاستقبالي هي وأخوها وزوجها وشقيق زوجها وابنها البالغ من العمر ستة سنوات.
طلبوا مني أن أذهب معهم الى بيتهم في مدينة دهوك حيث العائلة كلها تنتظرني مع وليمة فاخرة فاعتذرت لطول المسافة وضيق الوقت. اصطحبوني من الفندق الذي انزل فيه إلى منطقة عنكاوه حيث جلسنا في احد المقاهي السياحية المنتشرة هناك، فتحدثنا وتناقشنا ونحن نشرب القهوة والعصائر بينما الفتى الصغير يأكل أصابع البطاطا المقلية والتي سال لعابي عليها رغم أنني لم أكن جائعاً. سألتهم عن اسم عنكاوه فقالوا أن احد أبواب قلعة أربيل المواجه لتلك البلدة سمي قديماً باسم عمكاباد ثم أصبح عمكاوه ثم أصبح عنكاوه. أخبروني أنه توجد في البلدة كنيسة مار كيوركيس الأثرية والتي يبلغ عمرها أكثر من ألف وأربعمائة عام. في الكنيسة توجد ألواح قديمة مكتوب عليها باللغة الكلدانية القديمة كما يوجد في عنكاوه مزارات تحتوي على آنية أشورية وفخار وخزف، مثل مزار مريم (مريمانه) ومزار مار ايليا. سألتهم عن الكلدان فقالوا يجب أن تعرف أن هنالك أسماء أقوام دارجة وهي: الأشوريون، الكلدانيون، الآراميون والسريان. أما الأشوريون فهم من الأقوام التي سكنت بلاد مابين النهرين قبل ستة آلاف عام قبل الميلاد وينتسبون إلى أشور بن سام. كانت لغتهم الأساسية هي الأكادية (الكلدانية) فعرفوا باسم الكلدانيين ثم تحولت لغتهم إلى اللغة الآرامية (أرام تعني المرتفع ) لأنهم كانوا يسكنون الأراضي الشمالية المرتفعة. تدريجياً تلاشت اللغة الآرامية وحلت محلها اللغة السريانية (جاءت هذه التسمية من اليونان حيث أن أشوري باليونانية تعني اسورى ثم تغيرت إلى اسيريا ثم أصبحت سريان). سألتهم عن الديانة السريانية فقالوا بأن السريان كانوا من أقدم الشعوب التي اعتنقت المسيحية وكان ذلك في القرن الأول ميلادي ولكنهم فيما بعد ونظراً للاختلافات الكنسية اللاهوتية انقسموا إلى سريان الشرق (أشوريون وكلدان) وسريان الغرب (سريان أرثوذكس، سريان الروم الكاثوليك وسريان الموارنة).
عبر التاريخ، مرت على المنطقة إمبراطورية الروم وإمبراطورية الفرس وبعدها ازدهرت المسيحية في العراق والجزيرة العربية ويذكر التاريخ أنه كان هناك ثلاثة بيوت تتبارز فيما بينها لبناء الأديرة: بيت المنذر في الحيرة، بيت غسان في الشام وبيت الحارث بن كعب في نجران. بعد ذلك جاء الحكم الإسلامي حيث كانت الخلافة العباسية من أنشط فترات ازدهارهم ويشهد على ذلك الكثير من المخطوطات السريانية المنتشرة في متاحف العالم حيث عُرف الأديب السرياني يعقوب السروجي والشاعر مار أفرام الذي كان يلقب بقيثارة الروح. بعد ذلك مر حكم المغول والتتار ثم جاء الحكم العثماني. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى واستقلال العراق وسوريا هاجر العديد من السريان إلى بلاد العالم المختلفة حيث يقدر عدد السريان /الكلدان /الآشوريين في العالم حالياً بثلاثة ملايين نسمة ينتشرون في العراق (الموصل واربيل وبغداد)، ثم سوريا (القامشلي ومعلولا)، وكذلك في إيران وتركيا والهند والولايات المتحدة حيث يوجد في مدينة ديترويت ما يسمى بالحي الكلداني أما في جنوب ستوكهولم عاصمة السويد فيوجد لهم ضاحية تسمى «عاصمة الاشوريين». ورغم تراجع اللغة السريانية نتيجة للهجرة الا أن مدارس التعليم السرياني نشطت من جديد وخاصة بين سريان العراق اللذين هم أتباع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية والكنيسة السريانية الكاثوليكية وهم يتحدثون فيما بينهم باللغة السريانية. بعد جلسة ممتعة مع مريضتي وأهلها في عنكاوه حان موعد الرحيل وكانت تتجاذبني لحظتها أحاسيس إنسانية رائعة فأجمل ما في مهنة الطب أن مرضاك يتحولون إلى أصدقاء ومعارف يتابعون أخبارك وتنقلاتك في كل البلاد التي تزور فتذكرت عندها قول السيد المسيح عليه السلام «فهكذا كل شجرة جيدة تصنع ثماراً جيدة». قلت للمضيفين: عندما درست الطب في الإسكندرية في مصر احتضنتني عائلة مصرية قبطية وهاأنذا في عنكاوه تحتضني عائلة مسيحية سريانية. يقول الله تعالى في محكم كتابه في سورة النساء: « إِنّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىَ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ « ويقول سبحانه في نفس السورة:» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى (رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ) وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا «.
دعونا نحب بعضنا البعض.
E – mail: ibrahimsbeihaz@gmail.com