ثورة هادئة

 
محمود ابو هلال : منذ عشرين عاما وتحديداً منذ اتفاقية السلام التي قيل أنها ستأتي "بالسمن والعسل " والمؤشر في كل الاتجاهات نحو الهبوط والعجز في الارادة والادارة دون أن يطرأ تحسن ملموس على المسرح السياسي أو الاقتصادي الاردني، مما أفقد الاردنيين الأمل بأي اصلاح، واصبحوا اقرب للتشاؤل، فعوّل بعضهم على وعود الحكومات باصلاحات -وهم قلة- فيما عوّلت الأغلبية على إمكان استعادة الحياة الديمقراطية بواسطة رافعات النظام بتعدد تلك الرافعات، خاصة في الفترة التي سبقت الربيع العربي مباشرة، حيث شعر البعض أن هناك نية للاطاحة بالرموز التي تحوم حولها شبهات تورط بقضايا فساد وإفساد.

إلا أن قدوم الربيع العربي غير المسار فكان على النظام لتجاوز الربيع أحد امريين إما التحالف مع الاسلامين كما حدث عام 89 أو الاتجاه نحو النخب والرموز المستهلكة واجترارها مع اضفاء طابع العشائريةعليها .

وبالفعل تم استبعاد الخيار الاول كونه يعتبر قفزة في المجهول في ظل عدم وضوح الرؤيا في المنطقة وخاصة على الجانب السوري والمصري في ذلك الوقت، وايضا لأن اي محاولة لاقصاء الرموز ومحاسبتها قد تذهب بهم للمعارضة!! وقد شاهدنا خيمات الاعتصام حين تم التلويح بذلك.
ونتيجة ذلك إن أي متأمل للحالة الراهنة يلحظ بوضوح تراكم الأزمات، وفشل في تحقيق أي تقدم على أرض المسرح السياسي أو الاقتصادي ،فضلا عن باقي المسار التي ترتبط بهما .

والأسوأ من ذلك أن المشهد الاردني بكامله إنجر لحلقة مفرغة من التمحورات والتكتلات على أُسس بعيدة كل البعد عن الاصلاح، فقد دخل أو أُدّخِل رأس المال من بوابة التشريع ومعه رموز عشائرية، ليكون الشعب هو الخاسر الأكبر وليس ذلك فحسب ، وإنما الحياة السياسية بشكل عام لتستحيل إلى منطقة رمال متحركة تنذر بتدني الحال في ظل انهيارات فظيعة في البنى الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

تلك الانهيارات التي تغذيها الحكومات والتي أدت إلى إنشاء عجينة رخوة وغير متماسكة تسهل بقاء من تشاء أطول فترة ممكنة، أدت لظهور تكتلات جهوية سرعان ما بدأت تنشط، مما يعطينا مؤشر واضح على أن برامج الحكومات بغض النظر عن رئيسها وممارساتها ما عادت تغري بالبقاء أو الاستقطاب، علاوة على أن الخطابات والمخرجات السياسية للشخوص والرموز السياسية المجترة، باتت متآكلة سياسيا وفكريا ولا تلبي اهتمامات الشارع ،لا بل تزيد في حنقه إذ يدور النقاش ذاته حول الموضوعات ذاتها بالوسائل ذاتها التي لم تتجدد بالقدر الكافي منذ 20 سنة ويزيد.

وعلى الرغم من الاشكالات والتراكمات كافة التي جعلت الأزمات عصية على الحل، إلا أن جانبا مهماً يتعلق باللاعبين الأساسيين واخفاقاتهم لا يتم تناوله بالقدر الكافي.

لذلك فشلت الحكومات في تحقيق تطلعات الشعب باستعادة الديمقراطية أو فشل الشعب بالضغط على الحكومات بالقدر الذي يجبرها على تقديم تنازلات حقيقية ليس لجهة أشخاص وأحزاب، وإنما لجهة الديمقراطية والحريات العامة، وذلك أن هؤلاء المسؤولين في الحكومة يدركون أن النظام بحاجتهم في هذه المرحلة "الربيع العربي" ولا معارضة تؤرقهم مما أتاح لهم أكبر قدر من التحكم في الاقتصاد باتباع أكثر الوسائل فساداً، لتستحيل الدولة تدريجيا إلى مزرعة ضخمة تعج بالفاسدين، إلى درجة أضحت معها جرائم الاعتداء على المال العام نوعا من "الذكاء الاجتماعي" في مجتمع اتجه بالفعل وبقناعة تامة، للايمان بقيم استهلاكية تتذرع بمبدأ ميكيافيلي.
وحيال ذلك بدا النظام كالمصاب بالعجز ولا يستطيع تفعيل أدوات عمل تلك الرموز في أي اتجاه وبنفس الوقت غير قادر على الاطاحة بهم، أو إجبارهم على الاستقامة كحد أدنى.

وعلى الرغم من أنه ليس بالامكان إنكار عناصر الاشعال والالتهاب التي تراكمت عبر عقود، وصبت الشخصيات الأوتقراطية على نارها المزيد من الزيت، إلا أن الواقع ما عاد له مخرج منطقي يقوده للقفز على أزماته غير الاتجاه لثورة منطقية هادئة يقودها جيل جديد من السياسيين المستنيرين وعلى اساس بقاء النظام والالتفاف حوله للاطاحة بالرموز المتواترة والفاسدة والذين خبروا أدواءهم، وبذلك يكون بمقدورهم أن يحققوا تفاهما على قدر عال فيما بينهم لأنهم محررون على الأقل إلى حد كبير من استدراج البلاد للفوضى التي تتعلل بها تلك الشخصيات والرموز المجترة.

نعم هذا هو الخيار الوحيد المتاح والمنطقي في ظل هذا الواقع المحتقن، والمستقبل الذي لا يبدو أنه سيحمل أي نوع من الأمل وهو مرهون بقدرة هؤلاء الشباب على القفز عن الواقع وتجاوز احباطاتهم، للشروع في إجراء تغييرات جذرية في الأحزاب والمؤسسات السياسية لمواجهة ألازمات بحس حواري ووطني عال، فضلا عن الأمل المعقود عليهم في تحريك المياه الآسنة على الصعد كافة.

نعم ثورة مع النظام ولا أتورع عن تحريض الشباب في كل المؤسسات السياسية للتحرك الجاد في هذا الاتجاه، لأن مآلات الأحداث لا تبشر بخير، وقيادات المعارضة التقليدية التي ننتظر تحركها، تأمل فيما يبدو في ايجاد "تسويات مريحة" مع النظام، أو على أحسن الفروض هي مصابة بشلل في هذه المرحلة، وعاجزة عن ايجاد رؤية واضحة بسبب الضباب الكثيف. 

وبخلاف ذلك يبدو مشهد المستقبل القريب قاتما وليس أمام الشعب إلا الضرب كفاً بخد أو كفين بخدين على ما آلت وستؤول اليه الامور.