مصر.. أكثر من (انتفاضة) وأقل من (ثورة) ! (2-2)

الشجرة إنَّما تَدُل عليها ثمارها; وإنَّ ما نراه من ثمار المجلس الأعلى للقوَّات المسلَّحة يدل على حقيقية وماهية شجرته.

 

لو كان "المجلس" منحازاً فعلاً إلى الشعب وثورته لانتفت لديه الحاجة إلى حكومة أحمد شفيق, وَلَعَيَّن, بالتعاون مع الثوَّار وقيادتهم في ميدان التحرير, حكومة انتقالية تُسيِّر شؤون البلاد عبر وزراء من ذوي الاختصاص المهني, ولَرَفع حالة الطوارئ فوراً, ولَرَفَع فوراً أيضاً كل القيود عن الحقوق والحرِّيات الديمقراطية والسياسية والمدنية, وَلَدَعا الشعب إلى انتخاب هيئة أو لجنة من رجال القانون والخبراء في الدستور, تتولَّى إعداد مشروع دستور جديد للبلاد, فإذا انتهت من إعداده دُعي إلى استفتاء شعبي يدلي من خلاله الشعب برأيه في مشروع الدستور هذا, فإذا أقرَّه الشعب عُيِّن موعد لإجراء الانتخابات البرلمانية التي ينبثق منها برلمان, تنبثق منه حكومة, تملك السلطة التنفيذية كاملة (تقريباً). ومن هذا البرلمان, وبالانتخاب, يمكن الإتيان برئيس للجمهورية, يشبه, لجهة سلطاته, ملكة بريطانيا. وينبغي لهذا الموعد أنْ يتحدَّد بما يلبِّي حاجة الشعب إلى إنشاء وتطوير قوى حزبية حقيقية.

 

هذه هي وحدها الطريق إلى تحويل "الانتفاضة" إلى "ثورة", وإلى انتصار الثورة من ثمَّ; أمَّا الطريق التي يسير فيها "المجلس الأعلى", ويسعى في تسيير الشعب وانتفاضته فيها, فهي المؤدِّية سريعاً إلى "تعديل دستوري", تُرْفَع بعده حالة الطوارئ, وتُعَيَّن حكومة جديدة مُرْضية نسبياً للشعب, وتُجْرى في ظلِّها الانتخابات البرلمانية والرئاسية, على أنْ يستأثر منصب رئيس الجمهورية بحصَّة الأسد من السلطة التنفيذية, وعلى أنْ يكون المرشَّح الرئاسي الفائز من العسكريين قلباً, ومن المدنيين قالباً.

 

ومكافأةً للشعب على قبوله هذا "الحل النهائي" يمكن أنْ نرى ل¯ "المجلس الأعلى" يداً حديدية يضرب بها مبارك مع كثيرٍ من زمرته وحاشيته وأركان نظام حكمه, ويعيد بها الأموال المسروقة إلى خزينة الدولة; وقد يُتوِّج تلك المكافأة بتقديم مبارك نفسه إلى المحاكمة.

 

أمَّا إذا أبى الشعب واستكبر, واستبدَّت به وبثورته "الأطماع الثورية", وأصرَّ على المضي قُدُماً في الثورة, وصولاً إلى القضاء على نظام الحكم برمته, فينبغي لنا, عندئذٍ, أنْ نتوقَّع التوقُّع الأكثر واقعية من غيره حتى الآن ألا وهو أنْ يقرِّر "المجلس الأعلى" اللجوء إلى "عملية جراحية", يسفح فيها دم الشعب وثورته من أجل مَدِّ عروق وشرايين نظام الحكم بمزيد من الدم; ولا شكَّ في أنَّ تحسبه لهذا الاحتمال هو ما يحمله على استبقاء حالة الطوارئ, فهي قانونه للثورة المضادة.

 

لقد قيل, على شكل نكتة, إنَّ على الشعب الليبي ألاَّ يُعْلِن في شعار ثورته أنَّه يريد إسقاط النظام; لأنْ لا وجود للنظام حتى يسقطه, وإنَّ عليه, من ثمَّ, أنْ يُعْلِن أنَّه يريد إنشاء النظام.

 

وعلى سبيل الجد لا الهزل في القول, أقول إنَّ ما يسمَّى "اللا نظام" هو نوع من النظام; وهذا النوع (الليبي) هو عينه نظام الحكم العربي عندما يُضطَّر إلى أنْ يَظْهَر, في قوله وفعله, على حقيقته العارية (من شكليات نظام الحكم).

 

وينبغي لانتفاضة الشعب المصري ألاَّ تعلِّل نفسها بوهم أنَّ ما حدث في ليبيا على أيدي نظام حكم الدكتاتور معمر القذافي لن يحدث أبداً في مصر; فإنَّ إغراق الشعب وثورته في بحر من الدماء هو ميل فطري مشترَك بين أنظمة الحكم العربية المغتصِبة للسلطة اغتصاباً; وينبغي لهؤلاء المغتصِبين للسلطة أنْ يروا من قوى الرَّدع الشعبي ما يسمح بكبح هذا الميل لديهم, فإظهار هذه القوى هو وحده ما يجعل كفَّة العقلانية لدى مغتصِب السلطة ترجح على "الكفَّة القذافية", أي على كفَّة الجنون.

 

إنَّني لستُ من دعاة الصدام مع الجيش; لكنَّني ضدَّ الرومانسية الثورية في الموقف من قيادته العليا, وضدَّ الاستخذاء لوهم أنَّ المؤسَّسة العسكرية يمكن أنْ تنحاز إلى ثورةٍ بأهمية وعظمة ثورة الشعب المصري, فشعار "الجيش من الشعب" لا يعني, ويجب ألاَّ يعني, أنَّ المجلس الأعلى للقوَّات المسلَّحة هو أيضاً من الشعب; وإنَّ تاريخ الثورات الشعبية الظافرة ليؤكِّد لنا أنَّ الثورة لا تنتصر من خلال انحياز المؤسَّسة العسكرية إلى جانبها, وإنَّما من خلال عصيان الجيش لأوامر وتعليمات قيادته العسكرية العليا, التي هي جزء لا يتجزأ من نظام الحكم الذي تستهدف الثورة إطاحته.

 

إنَّ ثورة الشعب المصري, وبصفة كونها مركز الزلزال الثوري الشعبي الديمقراطي القومي العربي, مدعوة الآن إلى أنْ تعيد صياغة مطالبها بما يجعل هذه المطالب من نمط "المطالب الانتقالية", أي المطالب البسيطة في ظاهرها; لكن المتعذَّر على نظام الحكم تلبيتها في الوقت نفسه. وهذا النوع من المطالب هو ما يبقي الثورة الشعبية محتفظةً بطاقتها, ويكسبها مزيداً من الطاقة; ذلك لأنَّ نظام الحكم لا يمكنه تلبية "المطالب الانتقالية" من غير أنْ يحفر قبره بيديه, ولا يمكنه, في الوقت نفسه, رفض تلبيتها من غير أنْ يسكب مزيداً من الزيت على نار الثورة.

 

وأحسب أنَّ مطلب "الجمعية التأسيسية" المنتخَبة التي تتوفَّر على إعداد دستور جديد للبلاد هو في مقدَّم "المطالب الانتقالية" التي ينبغي لقيادة الثورة المصرية إعلانها والاستمساك بها.

 

أمَّا الوسيلة التي بها يصبح ممكناً الانتصار لهذا المطلب, ولغيره من المطالب الانتقالية, فهي "الاعتصام الشعبي المليوني والدائم" في ميدان التحرير, وفي سائر ميادين العاصمة والمدن, مع "الإضراب العام", حتى يستخذي المجلس الأعلى للقوَّات المسلَّحة لمشيئة الشعب وثورته, رافعاً "الراية البيضاء" لعلمه أنَّ اللجوء إلى الحراب لن يفضي إلاَّ إلى جلوسه هو عليها; وهذا ليس بانحياز من جانب المؤسَّسة العسكرية إلى الشعب وثورته, وإنَّما خضوع واستخذاء للمشيئة الشعبية المعبَّر عنها بتلك "المطالب الانتقالية".

 

jawad.bashiti@alarabalyawm.net