مأساة الشركس في سطور


ماذا يحمل التاريخ في بطونه من اسرار عن مأساة ومعاناة الشراكسة على مدار اكثر من قرن من الزمان من حروب مستمرة، الى ان آلت بهم الى الهجرة القصرية من موطنهم والتي ابتدأت منذ اكثر من 150 عاما، ابتدأت ما قبل العام 1864 ولكن بهذا العام كان الفوج الاول الاكبر الذي تجاوز 4ر1 مليون شركسي، وتوالت مئات الالوف بعد ذلك.
لقد وصل الاسلام الى بلاد الشراكسة (القفقاس) منذ العام السابع الميلادي تقريبا، ولكنه بقي ضعيفا وغير منتشر كما يجب لوعورة مناطق سكنهم لاسيما مناطق سكن القبرطاي، ولعدم رسوخ الاسلام والايمان بقلوبهم لعدم توفر علماء الدين لديهم بذلك الوقت، وبقي الامر كذلك الى ان بسطت الدولة العثمانية نفوذها على مناطق القفقاس واصبحت معظمها تدين بالاسلام وتتمسك به دينا ودستورا ونمط حياة.
ومنذ ذلك الوقت كانت الحروب تتوالى على الشركس، فقد حاربوا قوم الاسكيث الاشداء وانتصروا عليهم بقيادة امير القبرطاي باقسان، وثم حاربهم قوم الاوار وقاومهم الشركس بشدة بقيادة امير القبرطاي لاورستان والذي استشهد بالمعارك ثم انتصر عليهم امير الشابسوغ ينالقوه وطردهم من القفقاس.
وقد حاول حتى يوليوس قيصر بسط نفوذ دولته على القفقاس الا ان محاولاته وحروبه جميعها باءت بالفشل امام فرسان الشركس على اراضي القفقاس ولم يتمكن من تحقيق احلامه.
وعندما اكتسح التتار معظم شرق آسيا واحتلوا روسيا ووصلوا الى بلاد العرب في بلاد الشام ايضا، الا انهم هزموا امام تحالف الروس مع الشركس بقيادة قائد الروس ايفان والذي كان ملقب بايفان الرهيب.
وكان الشركس يتمتع بذكاء وفنون القتال ومهارة في القتال تكسبهم النصر في معاركهم ضد الروس وكافة الاقوام المعادية لهم، فمنها كانوا يستدرجون جيوش الروس الى المستنقعات الجليدية بالغابات والتي تحتمل بضعة فرسان من الشركس ممن يعلمون طرق المسير بها ، ولكنها سرعان ما تتحطم تحت حوافر جيوش الروس التي تغرق بتلك المستنقعات، وقبل ان يعرف الزمان الدبابات والمدافع، كان الشركس يضع الاحمال من الحطب المنقع بالزيت على ظهور الحمير واشعال النيران بها، وارسالها متقدمة ضد اعدائهم لاثارة الفزع والفوضى بصفوفهم وحملهم على الفرار، ثم الهجوم عليهم لاحكام قبضتهم عليهم والقضاء عليهم، ولطالما كانت اراضي القفقاس مقبرة للمعتدين الذين تحطمهت احلامهم وامانيهم فوق تلك الاراضي على ايدي فرسان وامراء الشركس.
لكن تلك الحروب المستمرة، استنزفت قوى الشركس، وكانت تفتك بهم شيئا فشيئا، وقتل واستشهد الملايين منهم على مر تلك السنوات، مما اضطرهم للهجرة القصرية وترك بلاد القفقاس الملقبة بجنة الله على الارض، ليقطعوا الاف الكيلو مترات دون ان يكون معهم اي مقومات للحياة سوى ملابسهم، وبعض الدواب وسلاحهم الفردي الذي لايفارق الشركسي وهي (القامة) السيف الشركسي.
وقد ذاقوا الامرين خلال الهجرة التي استمرت لسنوات وهم مهاجرون، وكانت الامراض والجوع تفتك بهم، ولايستطيعون تقديم اي شيء لمرضاهم ويضطرون لتركهم لتفترسهم ضواري الصحراء والغابات، والاستمرار بالهجرة ليصلوا الى اي بقعة آمنة يستطيعوا ان يحيوا بها.
لقد وصلت المواصيل بجيوش روسيا القيصرية ، ان تعمد الى خونتها ان تخرق بعض السفن التي كان ينوي الهجرة عليها الشركس، فتغرق بهم بعرض البحار وتلتهمهم الاسماك وقد غرقت بهذا الفعل عدة سفن.
وقدت فتكت الهجرة لوحدها باكثر من ثلاثمائة الف شركسي خلال الطريق بفعل الامراض، والجوع، وقطاع الطرق خلال الطريق وغيرها من مخاطر الهجرة في ذلك العصر.
وقد استقر حوالي 5ر2 مليون شركسي في تركيا، والالاف في سوريا لاسيما في قرية خناصر في حلب، وفي الجولان في فلسطين، وبالاردن بعدة مواقع كانت جميعها قرب عيون المياه، في رأس العين في عمان، وفي وادي السير، الزرقاء، جرش والرصيفة ومواقع اخرى.
لقد ذكرت جميع كتب التاريخ، ان الشركس كان اول من سكن وبنى عمان، وبالفعل فقد استقبلهم المغفور له الملك المؤسس عبدالله (الاول) لابل مد يد العون واستقبل بعض اسرى الشركس في روما والتي كانت تنوي تسليمهم الى روسيا وانضموا الى اخوانهم الشركس في الاردن.
لقد قال كارل ماركس عن الشركس وعشقهم للحرية حيث ضرب التاريخ بهم الامثال بمقاومتهم للمحتل، حيث قال (ياشعوب العالم، ايتها الانسانية، تعلموا من الشراكس معنى الحرية، وانظروا ماذا يستطيع شعب يطلب الحرية ان يفعل، وشاهدوا البطولات والتضحيات التي قدمها هذا الشعب مع قلة موارده وقدراته من اجل الحفاظ على حريته).
ان ماذاقه وعاناه هذا الشعب، لم يعاني منه شعب او اي فرد على مر العصور، مع تقديرنا لمعاناة جميع الامم، ولكنهم لم يهنأوا يوما منذ القرن الثالث قبل الميلاد ولغاية الهجرة القصرية في القرن التاسع عشر بحياة آمنة مستقرة خالية من الحروب ومحاولات الطرد والتهجير من بلادهم ان يسبقها القتل والتنكيل، وقد ابيدت عائلات وقرى بأكملها على ايدي جيوش روسيا القيصرية مثل احد قرى القبرطاي والتي ابيدت عن بكرة ابيها باحدى الحروب ولم يتبقى منها الا طفل واحد اسمه ماتكري قامت بتربيته عائلة اخرى وكانت عائلة شكاخوة من سلالته بعد ذلك.
لقد كان شعار روسيا القيصرية بحملتهم ضد الشركس (اقتلوا كل قفقاسي لايترك الاسلام)، ولكن بعد ان استقر الحال بالشركس بالدول العربية الاسلامية، بدأوا يظهرون ابداعاتهم، اما بالفروسية والقتال عندما قادوا جيوشا مختلفة انتصرت على اشد اعداء الاسلام مثل سيف الدين قطز، والظاهر بيبرس وحتى بالمعارك ضد الانجليز بقيادة ميرزا باشا, وكان منهم الكتاب والادباء والمشاهير على مستوى الوطن العربي ومنهم المؤرخ (ابن اياس) محمد بن الحنفي، والكاتب والاديب محمود سامي البارودي ، والشاعر الكبير احمد رامي وغيرهم الكثير.
هذه سطور بسيطة تشرح معاناة استمرت لقرون، وقضى خلالها الملايين من الشركس حتفهم وشاهدوا بام اعينهم احبائهم وفلذات اكبداهم يقضون امامهم، ولايسع هذا الشعب سوى استذكار مأساتهم التي بدأت بتاريخ 21 ايار 1864، وهناك الكثير من المعاناة التي حصلت معهم خلال الهجرة وبعد الهجرة والتي سنتطرق لها بمقالات اخرى لاحقا.

رائد شيكاخوا