ألف مرحى بقداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس
أخبار البلد - حنا ميخائيل سلامة
ألف مرحى بكم قداسة البابا، يا مَن تشخَص أبصار العالم إليكم في هذه الأيام، وقد أشْرَعْتُم الشِراع صوب المملكة الأردنية الهاشمية في زيارتكم التاريخية الأولى خارج دولة الفاتيكان منذ اختاركم التدبير الإلهيّ رُباناً لسفينة القديس الشهيد بطرس «الصـَّخرة، الصـَّفاة» التي بـُنـِيـَت عليها الكنيسة الأولى.
إنّ مَحَبـَّـتـَكم لهذه الدِّيار التي حَمـَلـَتْ مَشاعِلَ الكـَلِمةِ وبـُشرى المحبة إلى أصقاعِ الدنيا دَفـَعـَتـْكم لزيارتها. وفي الخاطِرِ، أن يكونَ الأردن المحطة الأولى في هذه الرحلة التي تحمِلُ في ثناياها علامات يُمنٍ وتباشير خيرٍ للأردن ولشـَرقـِنا العربيّ. هذا الأردن الذي يجتمع أهـلـُهُ بخـُشوعٍ وهم يـُصغونَ إلى أصوات أجراسِ كـَنائِسِه تنتقل من سَطح دار إلى سَطح دار، فتجتاز الأبعاد والآماد وتلتقي بوَحدةِ قـَلـْب ووَحدَةِ أنفاس مع الصلوات والابتهالات التي تتعالى من مآذِنِ مَساجـِدِه فتستمطر الرَّحمة وتبعث السَّكينة في النـُّفوسِ.
فألفَ مرحى، يا مَن «أشارَت إليكَ المحبة فاتـَّبـَعتـَها» عندما هـَمـَس الرُوحُ العـُلـْويُّ في مـَسـْمـَعِك وكُنتَ في مُقتبل العُمر: «عَيْني عليك»، فلبيت دعوة مَنْ لا يَخـْبو لهُ نور ولا يتغيـَّر، وارتـَضـَيْت بإرادتك ترك كُل شيءٍ مِن زائِل الدُنيا والتحقت بالرهبنة اليسوعية لتكون «كاهناً إلى الأبد»، كان هذا قبل سِتٍ وخمسين سنة لمَّا كرَّسْت نـَفـْسَك كـُلـِّياً لخدمَة مَنْ «كـَلام الحياةِ الأبديةِ عنده». ولتشهد للنور والحقّ أمام الشعوب والأمم، ولتكون راعِياً للنفوس تـُنـَمِّي محبـَّة الله فيها وتقودُها نحو الخلاص بالتوبة، وتـُفـَتـِّش عن «الخروف الضـَّال» بحرارةٍ واهتمام أكثرَ مِن «التـِّسع والتـِّسعين» في الحظيرة، كأبٍ لِلكـُلِّ، فتـُقَرِّب الناس إلى الله «المحبـَّة» وتـُعَلـِّـم وتـُرشِد أنَّ «مَلـَكوتَ الله في داخِل الإنسان» وعلى الإنسان أن لا يـَتـَعَلـَّق بالمادة وكـُنوز الأرض بل يَسعى «لِكـَسْبِ الكنز المُعَد له في السماء».
وتدور عُقود العُمر، فإذا بأبي الأنوار، الكلـّي الصلاح، يختاركم لِتسَنـُّمِ الميراث الروماني والجلوس على الكرسي الرسولي خليفة لقداسة البابا بنديكتوس السادس عشر. وها أنتم بما حباكم الله من تقوى وعِلم وفِكر نيّر وقلب كبير متواضع وخبرة روحية وزمنية تـَقودونَ وفي عَـيـنـَيكم بريق غـَدٍ مشرق سفينة بطرس في بحر عالمنا المتلاطم الأمواج.
قداسة البابا، عَمـَّا قـَريبٍ وبـِحَضرَتِكم المَهيبة، سـَيـَلتـَفُّ الأردنيون كعـِقـدِ لؤلؤٍ للتـَّرحيبِ بِكـُم ضيفاً عزيزاً على قائِدِهم ورائِدهم جلالة المَلك عبدِ الله الثاني ابن الحسين، وسَتـَرتـَفِعُ ترانيم الجَّوقات بروحانيـَّة شرقيـَّة أصيلة لِتُمجِّد خالِق الكـُلّ الرحمن الرحيم، وتدعو أن يـُحِلَّ عَدلـَه وسلامَه على الأرض. وسَتـَرَون تاريخـنا وتـُراثـنا وَسِيَرَ الأجداد والأسلاف المَمدودة جُذورُها في هذه الأرض الطيبة، ترتوي بِمائِه وتـَنـتـَعِش بنـَسائِمِه. وكيفَ يبني بتعاضد ومَحَبة المُسْـلِم والمَسيحيّ كـَتـفاً إلى كـَتـِف الصُّروحَ تِلوَ الصُّروح، وكيف تـلتـَصِق أيديهـما بـِمحراثِ الأرض المُبتـَهـِجة بانسكاب عَرَق جَبهتِهِما معاً وهُما يـَسعَيانِ مِن أجلِ غـَدٍ زاهرٍ لمن يـَخـْـلِـفهـُما مِن بعد.
أيـّها الضيف الجليل المقام، في المَدى وعلى هذه الأرض الطيـِّبة التي ستحظى بـِزيارَتـِكم المباركة، مواقع مقدَّسة أهَمُّـها المغطس على ضفة نهر الأردنِّ الشاهد الخالد على معمودية السيد المسيح. هناك لمَّا يَزل صدى «الصَوْت الصارخ في البريِّـة» يوحنا المعمدان، يحيى بن زكريا عليه السلام، يتردَّد في الآفاق وتحمِله أجنحة الرياح إلى جهات العالم كلِّها لِنَجْدة الفقير والمِعْوَز: «من له ثوبان فلــُيعْطِ من ليس له ومن له طعامٌ فليصنع كذلك»، ومُحذِّراً من عواقب عدم استثمار الإنسان لوجوده في هذه الدنيا في فعل الخير والعطاء: «ها إن الفأس قد وُضِعَت على أصلِ الشـَّجر فكلُّ شجرة لا تثمُر ثمرةً جيـِّدة ً تـُقـطـَعُ وتلقى في النار».
قداسة الحبر الأعظم، يا حامل رسالة المحبة التي جاء بها المُعلِّم الإلهيّ السيد المسيح، المحبة التي لا تحُدُّها حدود الديانة أو العِرق أو اللغة أو اللون، إنها محبة الآخر، محبة كل إنسان، إيَّاكَ نرجو صرخةً تؤجِّج الضمائر وتوقظ النفوس، وقد أخذ التاريخ يسير على غير هُدى! فالحضارة العالمية في خطر، والسِّلم العالمي والمجتمعي في خطر، والصراع بين النور والظلمة على أشُدِّه، وقوى الدمار والشر تفتُك بالمنتصرين للمبادئ الإنسانية والأخلاقية، واللاعُنف يُقابل بالعنف، وصدور العاملين للعدل والسلام تتعرض لِسهام خُصُوم السلام!
وإيَّاك نرجو، أن ترفع صوتـَكَ المَسموع، صوت الحكمة والأمل المنشود وقد تصامَم العَالم أمام ما يجري وتخطى المَعقول إلى اللامعقول، كي تُسْتَنفرَ طاقات الخيِّرين مِن أصحاب القرار والنيَّات الصافية حيثما وُجِدوا لوقف الحروب والاضطرابات والفوضى التي أخذت تستوطن حيث النظام والاستقرار والأمان، ولوضع حدٍ لأصحاب المصالح وأعداء الحياة الذين جعلوا الدول الآمِنة طُعْمَةً لأهوائِهم ومآرِبهم مِن خلال تحريك أدواتِهم لإثارة العصبيَّات والفتن المذهبية والطائفية والعِرقية بين النسيج الواحد لِناسٍ متآلفين مُتحابين.
قداسة البابا، أمَا آن لعالِمنا أن لا يُحَوِّل مِن بعد، خيرات الدنيا وثروات الأرض لتصنيعِ آلاتِ الحربِ والدمارِ والقتلِ والتشريد، بينما تتعالى تنهدات الفقراء والجياع، وتُمزِّق نياط القلوب زفرات المرضى والثكلى واليتامى وأنين المتألمين والمُشرَّدين؟ أما القوة في عالمِنا فليست بقوة إن لم تكن لتحرير الناس مِن الخوف وتُحقق كرامتهم وعدالتهم وترفع الأذى عنهم!
وأخيراً، لا تَسَلْ يا رَجُلَ السلام والمحبة، ويا مثال المتأمِّلين والأصفياء والمتواضعين عن غبطتنا بزيارتكم المجيدة لبلدنا الحبيب ففي قرارات قلوبنا وتخطُّرات أفكارنا أنتُم، يا مَحطَّ الرجاء وبَسْمَة المحبة.