حسابات التدخل الأميركي في ليبيا
التدخل العسكري الأميركي ـ الأوروبي في ليبيا، أصبح أكثر من احتمال، وأقل من حقيقة.. أو فلنقل أنه بات حقيقة محتملة.
التصريحات التي تصدر من واشنطن وعواصم اوروبية، يجب أن تؤخذ بعين الإعتبار.
باراك اوباما وساركوزي طالبا "بإنهاء فوري للعنف" في ليبيا.
والبيت الأبيض يقول أنه "لا يستبعد أي شيء" في رده على القمع الذي تمارسه حكومة القذافي ضد الإنتفاضة الشعبية، و "لا يستبعد خيارات ثنائية"..
ووزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس يعلن أن فرنسا وايطاليا هما الأفضل لفرض منطقة الحظر الجوي على ليبيا، غير مستبعد للخيار العسكري.
والاتحاد الاوروبي يبحث ارسال قوة تدخل انساني إلى ليبيا.
والبنتاغون بدأ بدراسة خطط طوارىء عدة للتعامل مع الوضع المتدهور فى ليبيا بناء على طلب من الرئيس اوباما.
الهدف المعلن لكل هذه التصريحات والتحركات هو "وضع حد للأزمة فى ليبيا".
ويبدو أن وضع حد لهذه الأزمة لا يشمل اسقاط نظام معمر القذافي، ولا الإستجابة لرغبات الشعب الليبي بالتحرر من نظامه، دون الخضوع للإحتلال..!
فقط وقف الإستخدام المفرط للقوة ضد الشعب..!
فجميع التصريحات الأميركية والأوروبية خلت من أية اشارة لضرورة استجابة القذافي لرغبات الشعب الليبي، وهي الصيغة التي استخدمتها هذه الأطراف في تعاملها مع زين العابدين بن علي، وحسني مبارك، قبيل نجاح الثورتين الشعبيتين في البلدين بإطاحة نظامي الحكم فيهما.
أما ما يؤشر إلى أن واشنطن لا تفكر في اطاحة نظام القذافي فهو اعلان الإدارة الأميركية أنها تؤيد طرد ليبيا من مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة..!
هذا يعني أن واشنطن تعمل على اطالة عمر نظام القذافي، وتغليف حقيقة اهدافها من التدخل العسكري الذي تلوح به، بإجراءات ذات طبيعة انسانية.. شأن كل عمليات السيطرة والإستعمار التي ارتكبتها اميركا، وغيرها من الدول الإستعمارية والإمبريالية لدى تدخلها عسكريا في أي دولة من دول العالم..!
الهدف الحقيقي هو النفط، لا الشعب الليبي..!!
ولعل خارطة توزيع آبار النفط في ليبيا، توفر غطاءا مناسبا لتحقيق هذا الهدف، الذي لا يضع مصالح ورغبات الشعب في الإعتبار.
بعد أن سيطر الثوار الليبيون على معظم انحاء ليبيا، فإن شراسة نظام القذافي التي تستدعي التدخل العسكري لوقف العنف، تتمركز حاليا في طرابلس العاصمة، ومحيطها الجغرافي.
ومن ينظر إلى خارطة آبار النفط في ليبيا، يجدها تتمركز في منطقتين جغرافيتين:
الأولى: جنوب وشمال وغرب طرابلس.
1. جنوب وغرب العاصمة الصحراوي، حيث لا سكان، وبالتالي لا ثورة شعبية، مع توفر امكانية لدى القوات الغازية لفرض طوق عسكري يحول دون تعرض الثوار الليبيين لمنشآت انتاج النفط
2. البحر الواقع شمال العاصمة، وأيضا حيث لا سكان، ولا امكانية لوصول الثوار إلى منشآت انتاج النفط في عرض البحر.
الثانية: جنوب وغرب بنغازي. وفي غرب بنغازي توجد الطرق التي يستعد الثوار لسلوكها إلى طرابلس لإستكمال انجاز اسقاط نظام القذافي.
وهذا التحرك يمكن اخضاعه لمنطق التدخل العسكري بهدف وقف العنف في ليبيا..!!
هنا يتوجب التوقف أمام مفارقة اميركية من العيار الثقيل:
السيطرة على نفط العراق استوجبت غزوا عسكريا للعراق تحت شعار اشاعة الديمقراطية عبر جنازير الدبابات وطائرات ومدافع الإحتلال.
أما السيطرة على نفط ليبيا، فهي تتطلب عدم الإلتفات إلى رغبات الشعب الليبي في الديمقراطية..
يجدر أن نلاحظ أيضا:
أن الإعتراضات الأميركية على استخدام العنف في ليبيا تأجلت طوال عشرة أيام طويلة، من طراز الأيام العشرة التي هزت العالم قبيل أن تطيح الثورة البلشفية بقيادة لينين، بالنظام الإمبراطوري في روسيا.
وفور أن لاحت امكانية حسم الثوار للموقف، وازدياد احتمالات اطاحتهم بالقذافي، وارتقاء هذه الإحتمالات إلى مستوى الحقيقة المنتظرة، ارتفعت شعارات وقف العنف في ليبيا، على نحو لا يفرق بين عنف نظام القذافي الذي يقتل البشر من أجل الحفاظ على ديمومة جثومه على صدر الشعب، واضطرار الليبيين إلى الدفاع عن أنفسهم وحياتهم، وحرياتهم، بصدورهم العارية، وما تيسر لهم من بنادق حصلوا عليها من معسكرات الجيش التي اجتاحوها، وجنود وضباط انحازوا للشعب في مواجهة اجرام الدكتاتور.
تلافي وقوع ليبيا تحت الإحتلال الأميركي، الذي يضع النفط الليبي بين ناظريه، ممكن في ثلاث حالات:
الأولى: صحوة ضمير معمر القذافي، على نحو يجعله يقدم استقالته، ويتنحى من السلطة لصالح الشعب الليبي، والدولة الليبية.
الثانية: تدخل عسكري عربي يحسم الموقف لصالح الثورة.
الثالثة: انتصار سريع وحاسم للثورة الشعبية الليبية، وتمكنها من اسقاط القذافي.
الحالة (الإحتمال) الأول (صحوة ضمير القذافي)، نوردها فقط حتى لا يقال أننا اسقطنا هذا الإحتمال، وهو احتمال نظري وحسب، لا امكانية عملية له على أرض الواقع، في ضوء معرفة التركيبة السيكولوجية للرجل.
ذات الأمر ينطبق على الإحتمال الثاني، فهو غير وارد عمليا.
الدولة العربية الوحيدة التي تملك الإمكانيات العسكرية، والحدود المشتركة مع ليبيا في ذات الآن، هي مصر، الغارقة حاليا في تفاعيل الثورة الشعبية، وسجالات الثوار مع المجلس العسكري الأعلى.
الإحتمال الثالث يعتمد على امكانية تحرك ثوار غرب ليبيا، الأقرب جغرافيا إلى طرابلس، وكذلك على انحيازات أخرى واجبة من قبل قوات الجيش والأجهزة الأمنية المتواجدة في العاصمة إلى جانب الشعب، وتجنيبا للبلاد أن تقع تحت الإحتلال الأميركي.. ذلك أن الطريق الصحراوي الطويل بين بنغازي وطرابلس يصعب تصور امكانية قطعه من قبل ثوار مدنيين، وجنود انحازوا للثورة، تحت القصف الجوي المتوقع من قبل سلاح الجو الليبي الموالي حتى الآن للقذافي، خلال فترة قصيرة تسبق التدخل العسكري الأميركي ـ الأوروبي في طرابلس..!
هذه الحقائق اللوجستية تدفع إلى ترجيح حدوث التدخل العسكري الأميركي ـ الأوروبي في ليبيا، وعلى نحو يفرض طرح السؤال عن مدى وحدود هذا التدخل المتوقع، والملوح به..؟
يمكن تصور المراحل الجغرافية التالية للتدخل العسكري في حال حدوثه:
المرحلة الأولى: انزال عسكري بحري في منطقة طرابلس، تحت شعارات حقن الدماء، ووقف العنف.
المرحلة الثانية: انتشار قوات التدخل في مناطق انتاج النفط غرب ليبيا تحت دعاوى من طراز حماية ثروة البلاد النفطية.
المرحلة الثالثة: انتشار هذه القوات في وسط ليبيا (غرب بنغازي)، حيث آبار النفط، وبذات المبرر (حماية ثروة البلاد النفطية).
وحين يتم التدخل تحت شعار وقف العنف، فإنه يفترض فقط الفصل بين الأطراف المتصارعة، مع الحفاظ على سيطرتها على المناطق التي تتواجد فيها.. يساعد اميركا على ذلك اتساع الرقعة الجغرافية الليبية (مليون و759540كم2) ، وقلة السكان مقارنة بهذه المساحة (5 ملايين نسمة، منهم مليونين من العجائز وكبار السن).
وربما تجري قوات الإحتلال حوارا غير مباشر بين هذه القوى، هدفه الوحيد ادامة الإنقسام الليبي، بما يهيئ الظروف لتقسيم البلاد والعباد..!
ويبقى السؤال: لم منحت واشنطن العقيد القذافي مهلة عشرة أيام ثمينة، قبل أن تبدأ في إطلاق التصريحات، المهيئة للتدخل العسكري في ليبيا..؟
لا جدال في أن واشنطن كانت معنية ببقاء نظام القذافي، وعدم نجاح الثورة في اسقاطه للأسباب التالية:
أولا: أن هذا النظام لا يمثل أية مخاطر على مصالحها في المنطقة.. فهو يبيعها نفط ليبيا بأسعار مخفضة، وسلم الولايات المتحدة كل ما يتعلق ببرنامجه النووي السابق، ويتماهى سياسيا وعسكريا مع الموقف الأميركي المعادي لنظام الحكم في السودان، وأوقف أي تحرش بنظام الحكم في تشاد، وأي دعم للثورة الفلسطينية، وفصائلها المقاومة، أو لسوريا، وتخلى عن تحالفه السابق مع ايران.
ثانيا: أن سقوط نظام القذافي، وقيام نظام حكم ديمقراطي في ليبيا، مؤهل لأن يفتح الأبواب على مصاريعها، لأن تكر سبحة النظام العربي الحليف لأميركا بكامله.
اميركا باتت في حاجة ملحة لأن تفشل ثورة شعبية في اسقاط نظام حكم عربي موال لها، كي تتراجع معنويات الشعوب العربية المندفعة على طريق التحرر من الأنظمة الموالية لأميركا.
ثالثا: أن النظام الديمقراطي المرتقب في ليبيا، قد يدعم مصر ماليا، ويغنيها عن المساعدات الأميركية المشروطة، التي قيدت السياسة المصرية في نطاق المصالح، والتحالفات الأميركية.
إن تغيير نظام الحكم في مصر، في ظل استمرار الحاجة المصرية للمساعدات المالية الأميركية، تحول دون انفلات المواقف السياسية المصرية من عقدة المصالح الأميركية، لكن الخوف الحقيقي هو من تصليب المساعدات الليبية للإقتصاد المصري، بما يفتح الباب أمام تصليب السياسة المصرية، ويخرجها من طوق المصالح الأميركية