ما هكذا يكون الإصلاح الاقتصادي!
المعلومات الواردة من الفريق الحكومي تعكس أجواء تؤكد أن ثمة انقلابا جذريا على النهج الاقتصادي المطبق في المملكة منذ عقد من الزمان، ويلمس المرء رفضا لكل ما كان قائما في الماضي وسط دعوات للردة والعودة إلى الدولة الرعوية.
ورغم الانتقادات الشديدة والتي وجهت لهذا النهج من قبل كثيرين (كنت واحدة منهم)، إلا أن تلك المطالبات بالإصلاح لا تعني البتة قلب المسار 180 درجة لنعود إلى التسعير أو إعادة وزارة التموين، فهذه خطيئة ترتكب، ولا تصنف إلا ضمن دائرة البحث عن حلول سهلة ستعود بالبلد خطوات للخلف.
بلا شك أن النهج الاقتصادي المطبق منذ سنوات ولّد مشكلات اقتصادية، لكن من طبقوا نهج الاقتصاد القائم على معادلة العرض والطلب حادوا عن كثير من قواعده لتحقيق مكتسبات رقمية لم تمهلهم كثيرا حتى بدأ الناس بالشكوى مما فعلوا.
وليس مخطئا من قال إن البرامج الاقتصادية التي طبقت منيت بفشل ذريع في توزيع مكتسبات التنمية، وساهمت بشكل كبير في تفاقم مشكلتي الفقر والبطالة، وساقت المجتمع إلى كوارث تمثلت بظاهرة العنف المجتمعي التي فسرها كثير من الخبراء بتردي الظروف الاقتصادية والمعيشية للناس واتساع الفجوة بينهم خلال الحقبة الماضية.
ويظهر أن الثقل الذي يلقيه المشهد الإقليمي والمحلي على تفكير الحكومة حيال النهج الاقتصادي واتساع دائرة الاحتجاج في الوطن العربي، جعل الحكومة ترفض ما طبق في الماضي في محاولة لاستعادة ثقة المجتمع، وكأن المشكلة في اقتصاد السوق الذي أفرز كل المشاكل السابقة وليس في آليات وأدوات التطبيق.
حقيقة الأمر أن المشكلة ليست في النهج ذاته، بل في أدوات التطبيق وما رافقها من تشويه تمثل بالفساد والهدر وغياب التخطيط الاقتصادي الذي يراعي احتياجات الناس ومطالباتهم المعيشية.
وما أوصلنا إلى هذه النتيجة ليس إلا الأخطاء الكثيرة التي ارتكبت في الماضي من سياسات ضريبية غيّبت العدالة، وضعف توزيع الإنفاق بعدالة بين مناطق المملكة المختلفة، وغياب الحاكمية، وغياب تقييم الأداء لنتائج الإنفاق الحكومي، حيث أنفقت حكومات متعاقبة نحو 700 مليون دينار على الفقر من دون إحداث أية نتائج ايجابية؛ فأين ذهبت هذه الأموال؟.
الردة والانقلاب الحاصل اليوم لا يقدمان بديلا قويا، بل يعبران عن حالة من الهروب إلى الأمام تنفذها الحكومة، بالعودة إلي الماضي من خلال اللجوء إلى التسعير لحل المشكلة؛ لكن من قال إن التسعير سيحل المشكلة ولن يخلق حالات من الاحتكار لدى العديد من التجار.
يبدو أن قلق الحكومة مما يحدث دفعها للبحث عن الحلول السهلة، رغم أن معالجة التشوهات التي عانت منها العملية الاقتصادية خلال العقد الماضي بحاجة لجهود كبيرة تتجاوز مسألة التسعير أو التفكير بالعودة الى وزارة التموين.
كان الأولى التفكير بعمق حول سبل إنهاء الممارسات الاحتكارية القائمة حاليا بدلا من توفير قنوات لزيادتها، وكان الأجدى أن تسعى الحكومة إلى وقف الهدر في المال العام من أجل حل مشكلة عجز الموازنة، ووضع خطة لزيادة الاستثمار للتخفيف من مشكلة البطالة.
من الذي قال للمسؤولين إن الناس يريدون سعرا واحدا للسلع، ومن أخبرهم أن غياب التنافسية والتفاوت في الأسعار هو المطلوب، فما هكذا تتحقق العدالة، وليس بالطرق "البالية" يتم توزيع مكتسبات التنمية بتساو.
كنا ننتظر من الحكومة أفكارا أكثر إبداعا لتحقيق العدالة الاجتماعية، التي تولد المواطنة الحقيقية، وكنا نأمل تكثيف الجهود لتبث لنا رسائل تطمئننا على مستقبل مجهول، ولا تعيدنا إلى ماض مجرب، فـ "المجرب لا يجرب".