الاعتقال الإداري
تفنّن العدوّ الصهيوني في ابتكار أساليب عنصريةٍ وحشيةٍ لإذلال شعبنا وكسر روح المقاومة والصمود فيه، إلا أنّه فشل على مدى سبعة عقود أنْ يحقّق هدفه هذا؛ إذ إنّ راية المقاومة ما زالت هي الراية التي يتجمّع حولها كلّ أطياف الشعب الفلسطيني، وما زالت شعلتها وقّادةً حتى وإنْ خَبت حيناً أو هدأت؛ فهي لا تخبو إلاّ لتزدادَ سعيراً!
برغم هذا الصمود الأسطوري إلاّ أنّنا لا يمكن أن نتجاهل أنّ هذا العدوّ استطاع أنْ يذيق هذا الشعب صنوفاً من الأذى البالغ على الصعيد الإنساني والاجتماعي، وأنْ يفرض عليه معاناة هائلة عزّ نظيرها تاريخيّاً، سواء من حيث قسوتها وحجم أذاها أم من حيث امتدادها عبر أجيال ثلاثة على الأقلّ؛ إذ تجد العائلة الفلسطينية: الجدّ والأب (أو الأمّ) والحفيد قد تعرّضوا جميعاً للاعتقال.
ولعلّ «الأَسْر» والاعتقال هو العنوان الأسوأ والصورة الأبشع لهذا الأذى وهذه المعاناة، ويعتبر «الاعتقال الإداري» أشدّ هذا السوء مرارةً وعنصريةً ولا إنسانية وتجاوزاً لكل المواثيق والقوانين الدولية.
وحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر فإنّ الاعتقال الإداري: «حرمان شخص ما من حريته بناءً على مبادرة أو أمر من السلطة التنفيذية وليست القضائية بدون توجيه تهم جنائية ضد المحتجز أو المعتقل إدارياً، كما أنه اعتقال يتم القيام به استنادا إلى أمر إداري فقط بدون حسم قضائي وبدون لائحة اتهام وبدون محاكمة طبقا للقانون الدولي».(نقلا عن دراسة للنائب عماد نوفل أعدّها لمركز الزيتونة للدراسات).
ويمارس الكيان الصهيوني هذا الاعتقال التعسفي منذ اغتصابه لفلسطين استنادا لقانون الطوارئ الذي ورثه الانتداب البريطاني، والصادر عام 1945، والذي هو ملغى أصلاً، «ذلك أنّ البريطانيين قد ألغـوا هذه الأنظمة في عام 1948 م. بتاريخ 14/5/1948 م».
ويتمّ ذلك بأمر من القادة العسكريين للمناطق المحتلة وبتوصية من جهاز المخابرات بعد جمع «مواد سرية» (تضرّ أمن الكيان)، وتكون مدّة الأمر لفترة أقصاها ستة أشهر قابلة للتجديد عدة مرات، وخلال ثمانية أيّام من صدور الأمر، يُعرض الأسير على محكمة عسكرية بدائية للمصادقة على الاعتقال ودون الكشف للمتّهم ولمحاميه عن التهمة وفحوى مواد الأدلّة.
هذا وقد صدر خلال سنوات الانتفاضة الأولى(1987- 1994)؛ ثمانية عشر ألفا وتسعمئة وثلاثة وسبعون أمرا إداريّا (حسب مركز أحرار لدراسات الأسرى)، وخلال سنوات الانتفاضة الثانية(2000 - 2007)؛ قرابة ثمانية عشر ألف أمر إداري. وكان أعلى عدد للأوامر الإدارية: التي صدرت في أعوام 1988، 2007، 2006 إذ تراوح عدد الأوامر الإدارية الصادرة خلالها ما بين(2000-4000) أمر إداري بين جديد ومجدد.
ويقبع اليوم في سجون الاحتلال الصهيوني ما يقارب من مئتي أسير إداري لمدد مختلفة دون أدنى محاكمة ولو شكلية. ومن أبرز هؤلاء الأسرى تعتقل سلطات الاحتلال تسعة من أصل أحد عشر نائباً بقرارات إدارية؛ وهؤلاء قضوا عدة سنوات متفرقة في الاعتقال الإداري. والأسرى النواب الإداريون هم: د.محمود الرمحي وعبد الجابر فقها من رام الله، وياسر منصور من نابلس، وأحمد عطون ومحمد أبو طير من القدس، ومحمد جمال النتشة وحاتم قفيشة (اعتقل أكثر من مرّة) ونزار رمضان ومحمد بدر من الخليل.
ومن أبشع صور الاعتقال الإداري ما يمارس ضد للأطفال(بموجب القانون الدولي والقانون «الإسرائيلي» يُعرّف القاصر بأنه شخص دون سن الثامنة عشر، أما القانون العسكري الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة يحدد القاصر بأنه شخص دون سن السادسة عشر وهذا يعني أن الأطفال الذي تتراوح أعمارهم بين 16-18 يعاملون معاملة البالغين بموجب القانون!)، والسبب الأكثر شيوعا لإلقاء القبض على هؤلاء الأطفال هو إلقاء الحجارة، ويتم اعتقال هؤلاء الأطفال إمّا من منازلهم أو على حواجز التفتيش حيث يتم تعصيب أعينهم وتكبيل أيديهم دون أن يوضح لهم سبب الاعتقال. وفي كثير من الأحيان يُحرم الأطفال من الحصول على محام للدفاع عنهم أو للتحقيق في سبب الاعتقال، وغالبا ما يتم إجبارهم على التوقيع على اعترافات مكتوبة باللغة العبرية، وهي لغة لا يفهمونها، والتي يتم استخدامها فيما بعد كأدلّة ضدهم.
واليوم؛ يخوض هؤلاء الأحرار معركته مع سجانهم بأمعائهم الخاوية منذ ثمانية عشر يوما بإضراب مفتوح عن الطعام، الذي لا يملكون غيره، ويتضامن معهم آلاف من إخوانهم «المحكومين» لإجبار الكيان على إخضاعهم «لمحاكمات عادلة» أو الإفراج الفوري عنهم.
وقياماً بأقلّ الواجب تجاه هؤلاء الأحرار؛ أطلق شباب ناشطون حملة تضامنية جديدة معهم عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» وبأكثر من 12 لغة عالمية وعدة أوسمة متفق عليها أبرزها وسم (#مي_وملح)، وبالتزامن معها حملة شبيهة على موقع «توتير» نفذت مساء الجمعة، ووصل التغريد بها على وسم «هاشتاج» #مي_وملح إلى أكثر من 11 ألف تغريدة خلال أربع وعشرين ساعة.
هذه مفردة واحدة من آلاف مفردات المعاناة والتمييز العنصري التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني على يد الاحتلال البغيض، فالحواجز والمستوطنات والجدار ومصادرة الأراضي وحرق الأشجار وقلع المزروعات ... مفردات أخرى وكثيرة تحتاج لأسفار من الكتابة والحديث.
آخر الكلام:
خلّد التاريخ «نيلسون مانديلا» وأنصفه العالم (وحقّ له ذلك) بعد ثمانية وعشرين عاما من الاعتقال؛ ترى كم ألف «مانديلا» فلسطيني (وعربي) ما زالوا يقبعون خلف القضبان؟ وكم سينتظرون حتى ينصفهم العالم؟!