يحاكم في بلده ويكرّمه العالم بطلاً لحرية الصحافة

بكل كبرياء وشموخ، استلم الصحفي الاستقصائي التركي أحمد شيك جائزة حرية الصحافة 2014، والتي تمنحها منظمة اليونيسكو سنوياً لأبرز شخصية إعلامية غامرت بسلامتها وأمنها في مسعاها للدفاع عن حرية الصحافة، وتعزيز مبدأ حرية التعبير.
شيك، الملاحق من حكومة رجب طيب أردوغان بتهمة التآمر على الحكومة، اكتسب شهرة واسعة في بلاده وحول العالم بسبب مقالاته وتحقيقاته الاستقصائية وسلسلة كتب، انتقد فيها الفساد وانتهاكات حرية التعبير وحقوق الإنسان في تركيا التي تحولت خلال السنوات الماضية إلى سجن كبير للصحفيين.
زج شيك في الحبس الاحتياطي لمدة عام بسبب مقاله "جيش الإمام"، الذي نشره في الثالث من آذار (مارس) 2011، قبل أن يطلق سراحه في آذار (مارس) 2012، في انتظار إجراءات محاكمة قد يدان فيها بالسجن 15 عاماً بسبب مقال الرأي الذي حُظر نشره.
كلمات معبرة قالها شيك (44 عاما) خلال مراسم تسلم الجائزة يوم الجمعة في مقر المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة، بمشاركة آرينا بوكوفا، مدير عام المنظمة (التي تطمح إلى خلافة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون)، ونخبة من كبار الشخصيات العالمية المدافعة عن حقوق الإنسان والإعلام. إذ قال الصحفي الاستثنائي إنه يهبُ جائزته للزميلات والزملاء ممن يخوضون معركة الحريات الإعلامية وحق التعبير حول العالم. واعتبر أنه نال هذه الجائزة لأنه "لا حرية إعلامية ولا حرية رأي أو تفكير" في بلاده، التي يرى أنها تدار على يد أردوغان -زعيم حزب العدالة والتنمية- ذي الجذور الإسلامية، والذي يرى أن "الكتب أخطر من القنابل".
وشخّص شيك مشاكل بلاده أمام عدسات المصورين، معتبرا أنها تمر بأزمة ديمقراطية من صنع أردوغان؛ إذ يتحول نظامها السياسي في عهده إلى "فاشي"، وسط احتدام المشاعر الوطنية، وتراجع الحريات، وشيطنة أي ناشط مطالب بالحرية، وإسكات الصحافة والإعلام، وتناسل مشاعر الإحباط وعدم الرضى بين المواطنين، ومحاربة المفكرين، وظلم أبناء الطبقة العاملة، والفساد الانتخابي.
وقال شيك بأسى: "كل من لا يفكر مثل هذا النظام، يصبح عدواً له".
وفقاً للصحفي التركي، فإن المشكلة الأكبر تكمن في أن غالبية سيدات الإعلام ورجاله يمنحون "الشرعية" لهذه السياسات، من خلال تأييد ما يمارسه أردوغان، بدلاً من الانحياز لقيم المهنية، والعدالة، والحرية، والإنسانية، والديمقراطية. إذ "ينزع هؤلاء إلى تبرير السياسات وتعزيز روح الدكتاتورية، وشرعنة الرقابة على الإعلام، لضمان استمرارية جمهورية الخوف. لكنهم -حال أردوغان- لا يدركون أن جميع الأنظمة القائمة على هذه الأسس مصيرها الانهيار".
وعبّر شيك عن أمله في أن يلتقي من شاركوا في حفل تكريمه هذا في المستقبل باعتباره صحفيا حرا، قادما من بلد حر.
قليل من العرب يريدون رؤية الحقيقة المرّة في تركيا، حيث يترافق النمو الاقتصادي مع قمع للحريات السياسية والشخصية. حتّى أولئك الذين تغنّوا بأردوغان في فجر "الربيع العربي" وأنموذج "الإسلام المعتدل"، كخيار بديل للأنظمة التي أطيح بها في مصر وتونس وليبيا واليمن، أو لتلك التي واجهت انتفاضات وحراكات شعبية مطالبة بمحاربة الفساد، والعيش بحرية وعدالة وكرامة.
ففي تركيا، يُزج صحفيون في السجن بمجرد التعبير عن آرائهم، باستخدام قوانين مطاطية مليئة بالثغرات، مناهضة للحريات ومكافحة للإرهاب. أو يحاربون في رزقهم؛ فيطردون من عملهم. وذلك في تعد فاضح على حرية الإعلام، يشكل وصمة عار على جبين أردوغان.
الإعلام في تركيا شهد "انتكاسة"، رصدها معهد "بيت الحرية" (فريدوم هاوس) الأميركي في تقريره عن حرية الصحافة العام 2013؛ إذ انزلقت إلى المرتبة 134 على سلم حرية الصحافة من بين 197 دولة. ويؤكد هذا التقرير المستقل شكاوى منظمات الإعلام المهنية التركية بشأن ممارسة الضغط والقمع والإكراه.
لكن حال تركيا ليس أفضل من حال الحريات الإعلامية والسياسية في غالبية دول ما كان يسمى "الربيع العربي"، وإن كان بدرجات.
ففي تقرير "بيت الحرية"، تصنّف سورية على أنها أخطر مناطق العالم للصحفيين. كما أن 2 % فقط من سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتمتعون بإعلام حر، فيما تكبّل القيود العمل الصحفي؛ سواء في الميدان أو عبر الشبكة العنكبوتية.
ويشير التقرير إلى فداحة القيود التي فُرضت على الإعلاميين العرب بعد ثورات "الربيع العربي"، ما أدى إلى تدهور مؤشر الحريات الإعلامية في المنطقة العربية.
قصة شيك تتشابك مع معاناة آلاف الصحفيين والإعلاميين حول العالم، ممن اختاروا الانحياز لصف السلطة الرابعة، بدل الجلوس في أحضان السلطة الدافئة، وممارسة الدعاية المضللة للمحافظة على المكاسب والمناصب. هؤلاء يوصمون في بلادهم بأنهم أعداء للأنظمة، أو عملاء لدول وحكومات وأجهزة استخباراتية تعمل ضد المصالح الوطنية وتهدد الأمن والاستقرار. لكنهم في الخارج هم رموز وأبطال لحرية الصحافة.
حرية التعبير هي حق أساسي للإنسان، وعماد سائر الحريات المدنية، ومفتاح رئيس لقيام دولة المؤسسات والقانون والحكم الديمقراطي. ومن دونها، لا فرق بين الإنسان والحيوان، ومن دون الحق في حرية الرأي لا تتوافر أي إمكانية للمطالبة بأبسط الحريات.
تشرفت كاتبة المقال بحضور حفل تكريم شيك. ومرّ أمامها شريط لزملاء حول العالم قضوا نتيجة إصرارهم على تغطية الحروب والويلات، أو تجرأوا على فضح ممارسات أنظمة الفساد والإفساد، أو قرروا الانحياز إلى الحقيقة ومبادئ هذه المهنة المقدسة.
كل عام وكل صحافي مهني، شريف ونظيف، بألف خير. فالحرية الإعلامية تُحوّل الواقع إلى شيء أفضل، في مواجهة حكومات مستبدة وفاسدة. لكن تزاوج الإعلام الرديء مع حكومات رديئة هو الكارثة بعينها.