الغازي أردوغان، تذكيرٌ لعشّاق العثمانية الجديدة

التفاهم العميق، وربما العاطفي، بين رجب أردوغان والجماعات الإرهابية الناشطة في سوريا والعراق، لا يشبه ما يقوم به الغرب المنافق من استخدام سياسي لتلك الجماعات. فأردوغان متماه تماماً معها، ولا يشعر بأي انفصال نفسي إزاءها. وعلى الرغم من ذقنه الحليقة وبذلته الحديثة، فإن قلب الرجل وعقله، عثمانيان. وهو متعلق كلياً بتاريخ أجداده الذين لا يختلفون، من حيث الجوهر، عن الإرهابيين الشيشان و«داعش» و«النصرة» الخ.


بنو عثمان قبيلة رعاة قزوينية ذات ميول همجية، لم تمتلك سوى القدرة غير المقيدة بأي قيد أخلاقي على القتل والتنكيل (اقرأ: جئناكم بالذبح) وقد عزّزها إدعاء للإسلام ليس له وظيفة أيديولوجية توحيدية حضارية ثقافية لغوية ــــ كما كان الحال في الفتح العربي ــــ وإنما له وظيفة سيكولوجية جماعية هي تحييد الضمير الإنساني واسباغ القداسة على الجريمة واللصوصية. القبيلة الصاعدة على هامش أحطّ تمرد همجي ضد الحضارة، المتمثل بالغزو المغولي، تعلمت ذلك الدرس جيداً.

حين اجتاحت جحافل العثمانيين، سوريا، في العام 1516، كانت البلاد تختزن عناصر تقدمية تؤهلها للإفلات من فوضى النمط الآسيوي إلى الحداثة الرأسمالية؛ ومنها: غنى ثقافي كثيف وتعددية ديموغرافية ــــ اجتماعية وانتاج زراعي مؤهل للتوسع وتمويل الانتقال نحو الصناعة، وخبرات وتقاليد حرفية.

في تلك اللحظة التاريخية، كان يمكن لكونفدرالية تجمع شتات البلاد أن تدفع نحو التقدم الذاتي، لكن قبيلة الرعاة القزوينية التي مزجت دينها بالدماء، استطاعت أن تضم سوريا إلى امبراطوريتها؛ أسوأ امبراطورية عرفها التاريخ، العثمانية التي جمدت التطور السوري لأربعة قرون، بل قل أخرجت سوريا من التاريخ.

الإدارة العثمانية، كما يليق بقبيلة همجية، لم تزد عن كونها نظاماً لصوصياً؛ لم تقم بأي خطوة نحو التنظيم السياسي والأمني والاقتصادي والخدمي الداخلي، وإنما شجعت وأدارت الصراعات المحلية ومنعت كل محاولات التوحيد المحلية (ومنها إمارتا المعنيين والشهابيين) وأشعلت الفتن دائماً، بما يكفل سيطرة اسطنبول على الجميع، والحصول على الأتاوات لخزانة السلطان. الأسوأ أن ذلك التراكم من النهب لم يتحول إلى تركّز رأسمالي ورأسمالية، وإنما جرى تبديده في الإنفاق السلطاني.

المحاولة الكبرى لكسر الدائرة المفغة من الجمود والتخلّف جاءت من مصر التي أخضع واليها، محمد علي، مواردها لإنشاء الصناعة وتحديث الدفاع وإحداث القفزة نحو الرأسمالية الحديثة. في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كان يمكن لمصر أن تلعب في سوريا دور المنظّم لقدراتها ومواردها وتمكينها من التحول إلى دولة قومية؛ فشل المشروع بسبب تدخل غربي استدعاه العثمانيون.

منذ وقت بعيد من تاريخها الأسود، تحوّلت «الخلافة العثمانية»، المحبوبة لدى قطاعات مجهلة من شعبنا، إلى محمية أوروبية، تحمي مصالح الإمبرياليين في بلادنا، وتشكل قفص الجمود التاريخي للشرق أمام التقدم الغربي. ومن الداخل، انطوت تلك «الخلافة» على أحطّ تنظيم سياسي عرفته البشرية. وسوف نترك لـ «خط كلخانة شريف» الصادر في العام 1839، في مسعى لإصلاح الدولة ــــ بسبب ضغوط التحدي المصري ــــ أن يصف واقع الخلافة في ذلك الوقت، يقرّر الخط: «منع بيع المناصب والامتيازات، ووقف الربا والرشوة والاعدامات بلا محاكمة ومصادرة الممتلكات وفرض الضرائب التعسفية، وانهاء التعدي على حرمات الحياة والشرف، ومنع استخدام السم والخنجر والتعذيب، ومنع احتكار الغذاء، والغاء تلزيمات جمع الضرائب، والشروع في المساواة بين أتباع الأديان... الخ».

إلا أن كل ذلك استمر، بشكل أو بآخر، حتى آخر يوم من حياة خلافة كانت أعظم مأساة في تاريخ سوريا والعرب. وكما بدأت الخلافة العثمانية تاريخها بمذابح على الجملة، لم تغادر التاريخ قبل أن ترتكب مذبحة القرن العشرين بحق مليون ونصف المليون أرمني؛ هذه المذبحة ليست فحسب جريمة ضد الإنسانية، وإنما، على الخصوص، جريمة ضد مستقبل الشعب الأرمني؛ حرمته من نخبه في كل المجالات، ومنعت تواصل أجياله، وقدرته على إعادة بناء نفسه بوصفه أمة عريقة من أمم الشرق.

عثمانيّة أردوغان لا تتبدى فقط في كراهيته العميقة لسوريا، وأطماعه الخاصة في حلب، وتماهيه مع مَن يشبهون أسلافه، بل كذلك، تحديدا، في استغلاله الحرب على سوريا لإرضاء حقده الدفين على الأرمن، وتعقبهم، وتوجيه ميليشياته للعدوان على بلداتهم وأحيائهم في ملاذهم السوري، وإعادة تهجيرهم.

وبالنسبة لسوريا كان الأتراك قد أضعفوها بحيث لم تستطع أن تهزم المستعمرين الأوروبيين، ولا اتفاق سايكس بيكو الذي جزّأها إلى أربع دول ــــ اغتصب الصهاينة إحداها ــــ ولا حتى الحفاظ على وحدة ساحلها ومجتمعها، حين سلب الأتراك، لواء الاسكندرون بالتعاون مع الاستعمار الفرنسي.

النموذج الأردوغاني هو نسخة عصرية من العثمانية، بكل همجيتها وفسادها وعدائها للعرب واستخدام الميليشيات والتعصب الديني المذهبي لتبرير القمع و العدوان والذبح، والتبعية للاستعمار الغربي من عضوية حلف الناتو إلى بالون النمو المنفوخ بالخصخصة والديون الخارجية، والمرشّح لانفجار ربما يشقّف تركيا، ويعيد العثمانيين الجدد إلى مراعي أسلافهم في قزوين.