كلٌّ ميسّرٌ لما خٌلِق له

بسبب تدخّل الأهل المباشر بل وضغطهم أحيانا ، وكذلك نتيجة لقوى الضغط المجتمعي ، والتي يكون تأثيرها عادة كبيرا ، فإنّ معظم الصّغار يترسّخ لديهم قناعة ، بأنّ مستقبلهم ــ بحول الله ــ يضمنه اختيارهم لتخصص ومهنة تضمن لهم عيشا كريما بل رغيداً . 
ينسى الأهل والمجتمع أنّ لكلّ إنسان مواهب وإمكانات وقدُرات . وأنّه إنّ تمّ اكتشاف هذه المواهب مبكراً وأُتيح لها المجال لتنمو وتُصقل في أجواء طبيعية دون ضغط أو إكراه مع توفير الظروف والإمكانات ، فإننا سنحصل في المستقبل على مبدع في مجالٍ ما ، يفيد نفسه ومجتمعه والإنسانيّة . 
كم من طفل كانت لديه بوادر موهبة الفك والتركيب والإصلاح ، فينهره الأهل ويأمروه بأن يُشغل وقته بما هو مفيد ، وكأنّ ما يقوم به مضيعة للوقت . بينما لو تمّ تشجيعه مع شيء من التوجيه لكان فنّيا أو مهندسا في هذا المجال يُتقن عمله ويحبه . ومثل ذلك الكثير من المواهب والتي يتم قمعها وكأنها منكر يجب الإستعاذه بالله منه أو عيبا ينبغي عدم الاقتراب منه . 
إنّ حب ما تعمل يجعلك تتقنه وتتفوّق فيه وتحرص على قضاء أكبر وقت معه، ممّا يمكّن من التجويد ويساعد على الابتكار . فشتّان بين من يعتبر ما يقوم به مجرد عمل وظيفي يعتاش منه يؤديه دون رغبة ينظر إلى ساعته كل خمس دقائق متأفّفاً ، وبين من ينام ويصحو وهو يفكر بعمله ، يذهب إليه بشوق ولا يتركه إلاّ مضطرا على أمل العودة بكل رضى وسعادة ولهفة . كالحبيب يلتقيه بلهفة ويتركه بشوقٍ أشد . فهو بالنسبة له متعه إضافة لكونه عملا وظيفيّا ووسيلة لكسب الرزق ، فاجتمع الحسنيان . 
ولا أدري لماذا تستهوينا عبارة ( سبع صنايع ) ، أو أن فلان ( بتاع كلّه ) ، علما أنّ الإنسان السوبرمان والذي يُتقن كل شيء والقادر على كل شيء لا يوجد إلاّ في الروايات والأفلام والخيال . فمن يدّعي أنّه أبو العرّيف هو في حقيقته لا يعلم إلاّ النزر اليسير من كلّ ما يدّعي العلم به . فهذا هو زمن التخصص بل والتخصص الدقيق والذي يتطلب دراسة وبحثا وتدريبا لفترات طويلة حتى يمكنه أن يقول بأنه وضع أول أقدامه في بحر هذا العلم الواسع . 
قلّة من البشر من تمكّن الجمع بين أكثر من عمل أو تخصص وأبدع فيها جميعا ، وحتى هذا فإنّ المراقبين والنّقاد يقولون ليته ركّز في مجال واحد فقط . وبإمكاننا مراجعة جميع أسماء من عملوا أو اهتموا بأكثر من مجال وكيف كان أداءه فيها ، ولا بدّ أنّ أحدها قد أخذت من رصيد الأخرى . والجمع بين الأعمال والمواهب والتخصصات كالجمع بين الزوجات لا يخلو من ميلٍ أو زيادة اهتمام بواحد على الآخر ، أو على حساب الآخر . فمقولة كلّهم أولادي لا تصلح للقياس فضلاً على أنّ التّفاوت بين الأبناء حاصل أيضاً حسب عدة اعتبارات . وأغلب من حاول التقليد فجمع ، فشل فيها جميعاّ . فهناك من بدأ حياته كاتبا أو شاعرا مرموقا ثمّ استهوته السياسة ( مثلاً ) وظنّ أنها تُكسبه الشهرة والثروة ، فلم يصبح سياسيا ناجحا يُشار إليه بالبنان ، في حين أنّ الناس انفضّت عن كتاباته وشعره لأنها أصبحت ملوّنة وملوّثة بالسياسة بدهاليزها وتقلّباتها ودهاءها . وكذا المزج بين عالم الأعمال والتجارة والسياسة والحكم ، إلاّ إذا كانت أحداها تخدم الأخرى أو تفتح أمامها مجالات ومغاليق الأبواب والآفاق . 
كلّ الذين برعوا في مجال من مجالات الحياة ، عكفوا عليه دراسة وبحثا وتطويرا وتدريبا ، واكتفوا به فأتقنوه وتفوّقوا فيه فخلّدهم التاريخ وشاع ذكرهم في العالم وأصبحوا فخرا وقدوة للأجيال ، يتقرّب منه ذوي الشأن ويطلبون رضاه ، فلكل مجتهد نصيب ، وكلٌّ ميسرٌ لما خُلِق له .