معان كريمة قوم لا تؤذى

د. علي العتوم
معان مدينة التاريخ والمجد، والحضارة والمُلك، والفتح والجهاد، والدعوة والإسلام، والإباء والرجولة. كل ذلك فيها ولها بحق، ولا أزكّيها على الله. إنها جزء أساس من تاريخ هذه الأمة العظيمة، وقطعة طهور من بلاد الشام المباركة، وثغر باسم لحمى الأردن أشرعَ أبوابه لتلقّي دعوة الإسلام العظيم، والترحيب برجالها حملة رايات الجلاد والاستشهاد للعبور إلى مختلف أنحاء المعمورة.
أفلا يشفع لهذه المدينة الباسلة كل هذا العز المؤثَّل، أن تُعامل من المسؤولين في هذا البلد بالحُسنى، إن حصلت فيها نائرة أو ثائرة لسبب أو لآخر، فيخفُّوا للاطلاع على ما نجم فيها، والوقوف على أسبابه الأساسية، ودوافعه الحقيقية ومن ثم أن يعمدوا إلى علاجه علاجَ الآسي النِّطاسي، والتعامل معه تعامل الوالد الحاني مع أولاده، أو الأخ الشفيق مع إخوانه، واضعين في أذهانهم بكل هدوء وتؤدة، أن التشخيص يسبق العلاج، وأن العلاج من ثم يكون بقدر الحاجة.
إن ما حصل في معان قبل أيام ليس جديداً عليها ولا على الأردن بشكل عامٍّ، فقد عُرِفت معان بأنها بؤرة ساخنة منذ زمان، حيث تحصل فيها مناوشات بين أهلها أنفسهم، وبينهم وبين المحيط من حولهم، أو بينهم وبين الحكومة. ولعل هذه هي أكثر ما يحدث فيها. وأحداث عام 1989م المعروفة بهبة نيسان، وعام 1996م المسماة بثورة الجياع، وقبل مدة حيث أحداث الجامعة بين عشائرها وأهل البادية من حولها، أمثلة ما زالت حيّةً في الذاكرة، وماثلة للعِيان، ومسطورة في السجلاّت.
ولقد فُسِّرت هذه الأحداث سابقاً ولاحقاً على أنها بحث عن فرص عمل مفقودة، أو سعيٌ لتأمين لُقَمِ عيش شحيحة، أو مطالبة من أهلها بفتح أبواب التهريب لهم بشتى أنواعه، وأحيانا على أنها أساليب تمرد على الحكومة من جماعات مُعارضة لإنكار مظاهر الفساد في البلاد، تسلك إليه طُرقاً غير سلمية، أو شارات عصيان لسياساتها العامة لغلقها سبل الجهاد، وعدم الوقوف إلى جانب الداعين لمقاتلة العدو الغاصب.
وقد تكون هذه كلها أسباباً حقيقة وصحيحة، وإن كانت ليست خاصة بأهل معان وحدهم، فإن السواد الأعظم من أبناء الأردن يعيشون ظروف العِوز وقلة ذات اليد بسبب تدني الأجور ومحدودية وسائل المعيشة وضيق أبواب الاستخدام، ويشعرون بطامة الفساد بمختلف أشكاله، أو سياسة الكبت في الحريات العامة، وعدم تساوق الحكومات مع ما يتطلع إليه الشباب المؤمن من ضرورة التحرّر والاستقلال.
غير أن آثار هذا الظلم الذي يحس به أبناء الأمة جميعاًً، ويطالبون الحكومة بالإقلاع عنه والسلوك معهم إزاءه مسلك العدالة والإنصاف، تظهر في معان أكثر من غيرها. وقد يعود ذلك إلى بُعدِها عن المركز العام للسلطة، وإلى طبيعة أهلها في طريقة إنكار المنكر، ومحاربة المفاسد والتجاوزات بطريق القوة والجرأة الظاهرتين، وإلى الشعور بالحيف أكثر من غيرهم، وخاصة في الاستفادة من عوائد الدولة، وقلة وجود المؤسسات الرسمية والخدمات العامة، ولا سيما في الأزمنة السابقة، في حين أنهم يشعرون أن لهم يداً على النظام أوائل تأسيسه.
وقد يعود هذا الفارق بين معان وغيرها في طريقة المواجهة، أن هذا (الغير)، قد نال نصيبه سابقاً من القمع الحكومي، ولا سيما في فترات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كمناطق الشمال التي كانت الدولة تنظر إلى أهلها بوصفهم مُعارضين لنظامها منذ وقت مبكِّر. ومن هنا فقد لان جلد هذه المناطق، وخاصة أنَّ طبيعتها تميل إلى الرغبة في الحياة الناعمة. وقد استُوعِبَ الكثير من أبنائها في العسكرية، وغيرها من وظائف قد لا يرضاها غيرهم، ممن يتطلع إلى السدد والمقامات العليا.
ولا يعني هذا أبداً، أنني أستجيز المساس بممتلكات الأمة في معان أو غيرها. فهذه أملاك عامة يجب الحفاظ عليها كما يُحافظ الإنسان على متاع بيته. غير أنني أؤمن أنه لا بد من المعارضة القاصدة، والإنكار الجريء لسياسة الجور التي تنتهجها الحكومة مع معان وغيرها، ولكنْ بالوسائل السلمية بعيداً عن كل ما فيه أذى للشعب وأبنائه ومقدراته، مطالباً الحكومة ألا تستمر في ركوب رأسها، معتمدة على الأسلوب القمعي في مواجهة أية مشكلة تنشأ في معان، فإن الساسة العقلاء هم الذين يسعون إلى الحفاظ على الإناء سليماً قبل كسره، بل إلى جبره قبل أن يزداد تهشماً وتكسراً.
وإذا كنت أستنكر اللجوء إلى سياسة التخريب في أي مكان من بلادنا من جهة المعارضين وبأي شكل من الأشكال، فإن على الحكومة في الوقت نفسه تحديد بؤر الجُناة وحصر جناياتهم – إن كانت حقاً – فيهم، وليس بتعميمها على أبناء المجتمع، فهذا ظلم وإساءة من جهة، ومخالفة قانونية وشرعية من جهة أخرى، وإلا كان الأمر انتقاماً من أبناء البلد الواحد، مما يزيد في إيغار الصدور وتوريث الإحن والأحقاد.
وإنني لأوجه للحكومة كلمة أرى أنها في خدمة الوطن وأبنائه والاستقرار وأسبابه، مُفادها : أنّ الظلم مرتعه وخيم فيجب أن تتقي الله في تصرفاتها، وألا تجعل ما يسمى بالحل الأمني الوسيلة الأولى للخروج من الأزمة، أو السلاح الأكبر في إدارة الأمور، فإن الاستفزاز لا يعود على المجتمع إلا بالضرر، مع وجوب الاستفادة مما يجري حولنا من وخامة التعنُّت في السياسات الحكومية، وعدم الإصاخة لمطالب الناس المشروعة، وألا تعتمد الفئوية في سياساتها. فهي مما يؤدي إلى الاضطهاد ويقود إلى الفساد، ومن ثم إلى التمرد والعصيان.
ونقطة أخرى أُشير إليها وهي نقطة حساسة، أن قضية من يُسَمَّوْنَ بالجهاديين من أبناء معان أو غيرهم، وظهورهم هنا وهناك، سببها سياسة الدول العربية التي أفسدت المناهج التربوية، فلم تبنها على أسس سليمة، بحيث تُربي أبناء الأمة على العزة وروح الجهاد، ودفعهم للثأر من عدوهم الذي يحتل ديارهم ويدوس مقدساتهم ليل نهار. ومن هنا اضْطُرّ بعض أبناء المجتمع إلى حمل السلاح لحرب العدو الذي يستجيزه كل عاقل مع إنكارنا أن يُحمل في وجه أبناء الأمة أيّاً كان موقعهم.
أجل، إنه لا مراء أن سياسة الكثيرين من المسؤولين العرب على مدى عقود عديدة من الظلم والاستعباد إضافة إلى قهر الدول الإستعمارية لأبناء أمتنا وأوطاننا، هي التي خلقت من أبناء الأمة ولا سيما شبابها الطموح بؤراً نارية لمواجهة الظلم والتجبر الرسمي، بحيث انصرف كثير من هؤلاء إلى تعبئة الفراغ وتمثل الثقافات التي درسوها على أرض الواقع بصورة غير سوية، ولا يُعالج هذا في الحقيقة مهما اشتد أو تفاقم إلا بالعدل وحُسن المعاملة والحِوار.
وعلى كل، فإنني أُذكِّر الجميع حكاماً ومحكومين، شعباً وحكومة أن البلد بحاجة إلى أبنائه جميعاً. والجميع أبناء بلد واحد ودين واحد ومجتمع واحد وتاريخ واحد وأمة واحدة، فليسلكوا طريق الرشاد، يوفقهم الله إلى كل خير وسداد، سائلاً الله أن يُسبِغ على أبناء هذا البلد ثوب الأمن والإيمان الراسخين، وأن يوفقهم لتفهم شرعه وتحكيم كتابه، إذ بهذا الحلُّ وإلاّ فلا. وتحيتي إلى أهل معان جميعاً، وعزائي لأولياء القتلى ومواساتي لأهل المصابين ودعائي لهم بالشفاء العاجل. وختاماً أُنشد لمعان وأهلها - وهي تَمْثُلُ في جغرافية الأردن وتاريخه المدينة العزيزة والجوهرة الثمينة التي يجب أن تُكرم وتصان، وتُعزَّ ولا تُهان - قول أبي العــــــــلاء المعرّي فيها:
معانٌ من أحبّتِنا معانُ
تُجيبُ الصّاهلاتِ بها القِيانُ