الفحيص ماحص ... جنّة معلقة !!
بين الفحيص وماحص لا تشعر أن ثمّة فرق، ليس شعوراً بل فعلاً، لا فرق. حجارة نبتت بين شجر، أصبحت بيوتاً تحدّها من الشرق والغرب أسوار معلّقة من سهول وجبال، سهلة النزول والطلوع لمن يعشق العبق، من تحت شجر ومن فوق شجر. كلاهما قريبتان من السماء، وديانها على ارتفاع، وليس في القاع إلا ما سقى المطر.
يقولون سأنزل إلى الفحيص، والحقيقة يجب أن يقولوا سأصعد،هناك الصعود قريب من الروح. شعور يأتيك بأنك فراشة بخفتها وألوانها ورغبتها في التحليق. رائحة تاريخ مُعطّر بالياسمين، حاضر مُفعَم باليانسون، صنوبر شاهق وحور وصفصاف، كان ذات يوم بذرة نقلتها طيور مهاجرة، أو عائدة من الهجرة، ربما عفويًا بمناقيرها وربما عمداً لتكون عشّها.
لا تُدرك أنك خرجت من الفحيص، ودخلت إلى ماحص، إلا حين ترى لافتة على بناية مكتوب عليها، بلدية أو مستشفى أو مقهى أو مخبز أو سوبر ماركت في آخرها...ماحص. حين تقرأ اللافتات على المحلات، لولا أنك ابن البلد لما ميّزت، وأنت فعلا لا تميّز ولا في الأردن من يميّز بين دين ودين، ومذهب
ومذهب، الكلّ ابن البلد والبلد لكل ابنائه. هذا ليس شعارا بل حقيقة؛
فالتاريخ القديم يؤكد، والحاضر الواعي يشهد، وأنت القادم من عمان لتتمتع بجمال بلدك، تُشاهد بعين عقلك ونبض قلبك.
جولة الخميس الماضي العائلية أول من أمس كنا هناك، ليس مرورا سريعا بالفحيص وماحص، بل تحديقا في عيون المدينتين، أو بالأحرى المدينة الواحدة الأشبه بقطعة جمال سقطت من السماء. بعد ماحص تنظر إلى أعلى، ثمة جبل يعلوه جبل يعلوه جبل، وفي القمة جبل يجلس وحده كإمبراطور، حوله حوريات خضر من شجر، تسير ببطء شديد، بودّك أن تتوقّف عند كل شجرة، تسألها أيّ جمال هذا الذي أرى؟ وأيّ ماء يجعل بشرتك بهذا الاخضرار الصافي؟
تتوقف عند منحنى في الأعلى، تنظر تحتك، فلا تجد إلا تحت تحتك، بيوتا في حضن الشجر، سلاسلَ من حجر تحمي التراب من غضب المطر في الشتاء، أسطحا من قرميد أحمر لكأنها لوحة ربانيّة، وسبحان الخالق في ما أبدع. جبال لكأنها من ريش صقر لا من صخر، تصعد تصعد حتى تصل الجبل الإمبراطور، وفي حضرته ترى المشهد بكل جمالياته، تجلس في ظلّ شجرة، تحتسي قهوتك، تدخن بمتعة سيجارتك فلا ضرر هناك، الهواء أنقى.
بعد الجبل تريد أن تعود إلى عمّانك، لكأنّ النشوة سكنتك، تتوه عن الطريق، تسأل عمالاً وافدين يبنون بيتا في قلب الشجر، تسألهم وأنت معلّق بين المكان العالي وبين قلقك: إلى أين يؤدي هذا الطريق؟ يضحك أحدهم الذي سمعك وأنت تسأل: لا أعرف. يأتي الآخر فيسأله نيابة عنك. يضحك: إلى فلسطين. أطلق ضحكة مُرَّة..
يبدو أنني كنت قريبا من الغور، ولا أدري أين أنا، هكذا نحن.. قريبون من فلسطين لكنَّ الطّريقَ ضَاع !!