ملك الملوك» إذ ينهار على الهواء مباشرة ؟
سبعون دقيقة وأنا استمع معقود اللسان وفاغر الفاه لخطاب العقيد...تارة تجتاحني نوبة ضحك ، وثانية تنتابني موجة غضب ، وثالثة يصل بي التقزز والقرف حد الرغبة في التقيؤ...ودائما يسكنني إحساس عميق بالقلق...فنحن أمام رجل مريض حقاً ، وخطابه يحتاج لمحلل نفسي يتابع هذيانه وهلوساته وليس لمحلل سياسي يقرأ سطوره وما بينها وخلفها...أكثر من الحديث عن "حبوب الهلوسة" إلى الحد الذي ظننت أنه ابتلع كل ما في أسواق طرابلس الغرب منها.
جنون العظمة والمجد كان طاغياً على محيا الرجل ونبرة صورته وحركاته المسرحية...ما من أحد يعلن على الملأ أنه مجد بلاده وعزتها...وأنه الرجل الوحيد فيها عندما عز الرجال...ما من زعيم خاطب شعبه بلغة الجرذان والفئران وشذّاذ الآفاق...ما من رجل يؤرخ لتاريخ بلاده من لحظة ميلاده ، وبالأخص من لحظة وصوله إلى السلطة...ما من "قائد" منفصل عمّا يجري حوله ويعيش "حالة إنكار مرضية" كما كان عليه القذافي مساء أمس الأول.
خوّف شعبه بالغرب والاستعمار القادم والتقسيم والحرب الأهلية...وخوّف الغرب من الهجرات والإرهاب وأيتام الزرقاوي في "درنة" و"بنغازي" ...وخوًف الجميع من أن النفط والغاز لن يتدفقا بعد اليوم من آبار ليبيا...أوروبا ستفقد دفئها والليببون سيخسرون مصدر معاشهم...كيف لا وهو الضامن لليبيا والليبين ، وهو الحارس الأمين على مصالح أمريكا وأوروبا ، برغم كل ما تضمنه خطابه المتلعثم من "رطانة ثورية" ساقطة ومثيرة للسخرية والشفقة.
انتهى العقيد ، وكنا بحاجة لمشاهدته خلال سبعين دقيقة من الهذيان لنتأكد أنها سكرات الموت ونهاية فصل مزر في مسرح "اللامعقول"...انتهى القذافي ، وقد شاهدناه ينهار ويتفكك على الهواء مباشرة...لم يكن ينقصه سوى أن "يشد شعره" و"يلطم خدوده" ويركض في الشوارع كمن أصابه مسّّ من الجنّ.
انتهى القذافي ، وذهبت صرخات استغاثته أدراج الرياح...لم يخرج الشعب الليبي عن بكرة أبيه لمطاردة "عصابة المئة من متعاطي المخدرات وحبوب الهلوسة والإرهابيين"...لم يستجب لنداءاته من أسماهم "جيل الثورة وأبناؤها"...لم يخرج محبو القذافي من بيوتهم إلى الشوارع ، يبدو أن لا أحد يحب القذافي في ليبيا...نحن نعرف ذلك ، لكن "المريض في باب العزيزية" لم يكن يدرك أن عصره قد ولّى ، وأن الليبيين يجتمعون أمام الشاشات الكبيرة لقذف صورته بالأحذية في أثناء بث خطابه ، تماما مثلما فعلوا مع نجله المأفون ، سر أبيه ، سيف الإسلام القذافي.
انتهى القذافي ، ولم يعد يدري ما يقول أو يفعل...إنه تائه...إنه "الجنرال في متاهته"...هو اتهم الثوار بأنهم قلة قليلة لا تتعدى المائة شخص ، ولكنه عاد ليعترف في الخطاب ذاته ، بأنهم سيطروا على الشرق بمدنه وموانئه ومطاراته ومعسكراته وعلى أجزاء واسعة من الغرب والجنوب....وهو اتهم الثوار بانهم من أنصار الزرقاوي وابن لادن ، قبل أن يعود ويتهمهم بانهم عملاء للأمريكان والأجانب...هو اتهمهم بانهم ينوون تقسيم ليبيا وإعادة مائة عام للوراء ، قبل أن يعود ويعرض على كل قبيلة "شعبيتها وبلديتها ونصيبها من النفط" في عزف منفرد على وتر القبائلية والعشائرية والتقسيم والحرب الأهلية.
إلى أن بلغ المشهد ذروته الدرامية ، عندما جُنً جنون القذافي وهو يتساءل هل يعقل أن يقود الليبيين قائد غير معمر القذافي...هل يعقل أنه انتهى...هل يعقل ان ينتحى ، ومن أية مناصب...هنا كانت الطامة الكبرى...هنا كانت ذروة المشهد الدرامي: القذافي فقد القيادة وهو الذي احتفظ بلقب القائد لأكثر من أربعين عاماً...الليبيون ، وبالذات جيل الثورة ، يلعنون العقيد ويطالبون بإسقاطه ومحاسبته هو وأفراد أسرته الذين يشبهونه كثيراً.
القذافي فقد السيطرة على نفسه ومشاعره ، لا يدري هل يبكي أم يضحك ، يهدد أم يتوسل ، هو غير مصدّق لما يجري حوله ، لم يبق اسم مدينة إلا واستنجد بها ، لم تبق عشيرة واحدة إلا وذكرها...أغراهم بالنفط والاستقلال الذاتي العشائري وتهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور...لم تبق كارثة إلا واستحضرها من غزة إلى موسكو مرورا ببكين وغيرها ، علً الترهيب ينفع إن لم ينفع الترغيب ، هو مستعد أن يفعل كل ، أن يدفع بثورة ليبيا لأجيال قادمة ، لكل من يأتي ويوقظه مما يعتقد أنه كابوس ثقيل ، أو مقلب سمج من كاميرا خفية...هو غير مصدق ما تراه عيناه وما تسمعه أذناه...هو في حالة إنكار شديدة.
أحياناً كنت أشعر أن الرجل يسترسل في الحديث لكأنه نسي للحظات ما يدور حوله ، وإلا لما قرأ قانون العقوبات ، ولما ميّز بين تظاهر سلمي مجاز شريطة أن يكون للتضامن مع غزة أو العراق فقط ، وليس لرفع أية مطالب تخص ليبيا ، هو تحدث في بعض فقرات خطاب "التاريخي" كما كان يفعل في الأيام الخوالي ، إلى أن يستذكر الظرف والمناسبة ، فيهتاج من جديد ، ويعود إلى صراخه وعويله.
إن قدر للرجل أن يمثل أمام محكمة جزاء محلية أو دولية ، لا تكونوا متأكدين من أنه سيأخذ أقصى العقوبة على جرائم الحرب التي قارفها بدم بارد ، سيكون بمقدور أي محامي مبتدئ أن يحيل أوراقه إلى "الطب الشرعي" ، وسيحظى بشهادة عدم أهلية ، أكاد أجزم بأنه سيحظى بتقرير طبي يبرهن على أنه ليس بكامل قواه العقلية ، وقد يأخذ حكماً مخففاً...القذافي فقد عقله.
لكن ذلك لا يعني أنه لم يعد رجلاً خطراً...أنه كأي معتوه مدجج بالسلاح ، يدلف إلى مدرسة أطفال...يسليهم حيناً بحركاته البهلوانية ، ولكنه قد يفتح نيران رشاشه على صدورهم الغضة والطرية والعارية...القذافي في أخطر حالاته...ليس بمقدوري أن أرسم مشهد النهاية ، لا أعرف كيف سينتهي أو متى بالضبط ، فيزيائياً أقصد ، فالرجل انتهى سياسياً ، أنا متأكد أنه انتهى وقضي الأمر...لكن ، هل سيموت على يد حراسه ومقربيه وعائلته...هل يطلق النار على نفسه أو يتجرع السّم الزعاف على طريقة هتلر...هل تصل إليه يد الجماهير الغاضبة فيواجه مصير تشاوتشيسكو: السحل والاستقرار في سلة القمامة...أي مصير سينتهي إليه هذا الرجل ، لست أدري ، لكنني متأكد أنه مصير غير مشرّف...إنني متأكد أنه مصير يليق بملك ملوك أفريقيا.