هل نحتاج لإعادة تحديد الأولويات؟
لطالما دار السجال حول الأولويات في الأردن؛ ما بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي. ومع "الربيع العربي"، حقق الإصلاح السياسي تقدما حاسما في السباق كأولوية، حتى عدنا الآن، مع مديونية العشرين مليار دينار وعجز يقترب من ملياري دولار، بالإصلاح الاقتصادي إلى المقدمة!
وأنا لا أعارض هذا التقديم، لكن أرغب في أن يوضع في سياقه الصحيح. فلطالما انطوى "سباق الأولويات" على افتعال يُضمر موقفا سلبيا مسبقا تجاه الإصلاح السياسي، عنوانه الشعار التبسيطي بأن الناس تريد الخبز وليس السياسة. وهو يستند إلى استطلاعات الرأي التي تُظهر فعلا أن اهتمام الأغلبية يتعلق بالعمل ومستوى المعيشة والخدمات، بينما تبقى في آخر الاهتمامات قضايا الحياة السياسية. والحقيقة أن اهتمام الناس هو هكذا في كل المجتمعات، بما فيها الأكثر تقدما. لكن التزييف يكمن في الفصل التعسفي بين السياسة والقضايا المعيشية للناس.
القيادات السياسية والفكرية تعي الترابط. فعندما نفكر في قانون الانتخاب، نفكر في كيفية تحسين تمثيل الناس وتقوية السلطة التشريعية والرقابية، ومواجهة الفساد وتطبيق الحكم الرشيد، وتجويد إدارة القرار، وفي المقدمة القرار الاقتصادي؛ لكي نساهم في حل المشاكل، وتخفيف الأعباء عن الناس، ورفع مستوى المعيشة وتحسين الخدمات.
وفي لحظة معينة بعد تحسن الاقتصاد، تعمق الحديث عن "التنمية السياسية". وأنشئت وزارة لهذه الغاية، وارتفع حجم التوقعات عاليا. لكن هنا تقرر الانعطاف بإعلان أولوية جديدة، هي الإصلاح الإداري بدل السياسي، وتم إنشاء وزارة تطوير القطاع العام، والدخول في ورشات كبيرة لترشيق الجهاز الحكومي. ونمت موضة الهيئات المستقلة، لننتهي بهدف تقليص الحكومة. لكن النتيجة النهائية أن المؤسسات العامة ونفقاتها تضخمت إلى حدود غير معقولة بدل أن تتقلص، ونشأت عشرات المناصب العليا الإضافية، وغابة من الأنظمة الإدارية والمالية المختلفة، فاقمت الهوة في الامتيازات وأرهقت الموازنة بأعباء جديدة.
وذات يوم، وجدنا الفقاعة الاقتصادية المالية تنفجر؛ فنصحو على موازنة متضخمة وإيرادات متدنية، سنة بعد أخرى. فتصاعدت المديونية، وعدنا إلى نقطة الصفر، من دون أن يتمكن الرأي العام من محاسبة أحد. فليس هناك حزب سياسي استلم الحكومة لعقد من الزمان لنعاقبه بالإبعاد ونأتي ببديل له. وهنا بالضبط تأتي قضية الإصلاح السياسي؛ أي تطوير أساليب الحكم وإدارة القرار في شؤون حياتنا، وفي مقدمتها الاقتصاد والإدارة. وبهذا التطوير نكون في الواقع نطور الثقافة والأفكار والقيم الشائعة، وكلها مكونات مهمة في الاقتصاد والإدارة والسياسة.
المهم أننا استهلكنا الدفعة الأولى من التطوير السياسي أثناء "الربيع العربي" متوجا بانتخابات العام الماضي. وظهر واضحا أنها لم تكن كافية. لكن البرلمان الحالي يواجه منذ بدايته حقيقة العبء الرهيب للمديونية والعجز، وما فرضاه من إجراءات قاسية قادت إلى وقف التدهور ومنع انهيار الدينار، حسب رئيس الحكومة. لكن يأتي السؤال: ماذا بعد ذلك؟!
هناك بطالة قاسية تشمل الأجيال الشابة والخريجين، بينما العمالة الرخيصة الأجنبية (السورية هذه الأيام) تزيح الأردنيين بالجملة من المصالح الصغيرة في السوق. وبعد الإجراءات القاسية، وهي بطبيعتها سلبية؛ إذ إن تقليص الدعم ورفع الأسعار يمنعان التدهور المالي لكنهما لا يحققان رواجا اقتصاديا وتنمية، ما الذي ينبغي أن نفعله لمواجهة الموقف؟
بهذا المعنى، نعم؛ الأولوية الآن للاقتصاد، ويجب تقديم إجابات. ونحن لسنا مضغوطين في الوقت لإنجاز قانون انتخاب جديد، ويكفي أن نبدأ بقانون البلديات واللامركزية وقانون الأحزاب حتى العام القادم، فيكون لكل حادث حديث.