ما أتذكّرُه في 9 نيسان

 

تلقَّت الأمّة العربيَّة في 9 نيسان 2003 أكبر إهانةٍ وُجِّهَتْ لها في تاريخها الحديث؛ إذ، في ذلك اليوم القاتم الكئيب، أُحتُلَّتْ إحدى أهمّ حواضرها (أعني بغداد؛ كما لا بدَّ أنَّكم تذكرون).

انطلقت القوّات الأميركيَّة (والأطلسيَّة) لاحتلال عاصمة الرشيد مِنْ أراضي عددٍ من الدول العربيَّة المحيطة بالعراق. ومن المؤسف أنَّنا – مع ضعف الذاكرة واستلاب العقول الذي يعاني منه كثيرون هذه الأيَّام – أصبحنا مضطرّين للتذكير بأنَّ تلك الدول، التي تآمرتْ على العراق، هي نفسها التي تدعم الآن بحماس عمليَّة تدمير سوريَّة بالمال والسلاح وقطعان المرتزقة الذين ينطلقون مِنْ أراضيها إلى سوريَّة ليقتلوا الألوف مِنْ أبنائها (سواء أكانوا جنوداً أم مواطنين مسالمين). وقد بذلتْ تلك الدول، أيضاً، كلَّ جهدٍ مستطاع، وأنفقتْ أموالاً طائلة، مِنْ أجل تهيئة الفرصة المناسبة لعدوانٍ أميركيٍّ – أطلسيٍّ مماثل على سوريَّة يذيقها (والأمّة كلّها معها) الطعم المرّ الذي ذاقته بغداد.

فهل هي مصادفة؟

وأتذكّرُ، هنا، أنَّ «الإخوان المسلمين»، الذين موَّهت فروعهم خارج العراق موقفهم من الاحتلال، كانوا في الواقع مِنْ بين أبرز مؤازريه والذين منحوه الغطاء؛ فطارق الهاشميّ، رئيس «الحزب الإسلاميّ» (فرع «الإخوان المسلمين» في العراق) كان أحد أبرز الذين دخلوا أرض الرافدين «على ظهور الدبَّابات الأميركيَّة» ليستخدمهم «المندوب الساميّ الأميركيّ»، بريمر، في عمليَّته السياسيَّة. وقد فازوا («الإخوان») مِنْ تلك العمليَّة المشينة بغنيمةٍ كبيرة (كبيرة، طبعاً، بحساباتهم الخاصَّة وحسابات سواهم مِنْ أرباب «العمليَّة السياسيَّة»)؛ حيث أُسنِدَ لطارق الهاشميّ منصب نائب رئيس العراق المحتلّ (يا للشرف العظيم!) كما أنَّهم سهَّلوا، مع الأحزاب الدينيَّة الشيعيَّة ومع الإقطاع السياسيّ الكرديّ، الخطَّة الأميركيَّة الأطلسيَّة لتقسيم العراق على أساسٍ مذهبيّ - أثنيّ، وصبغ الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة العراقيَّة بهذه الصبغة المرضيَّة المدمِّرة؛ كي لا تقوم له قائمة. وهم، الآن، - كما هو معروف - رأس الحربة في ما يجري لسوريَّة.

فهل هي مصادفة؟

وآنذاك، استلَّ كثيرٌ من الكتّاب العرب المتأمركين (والمتذيِّلين لسلاطين النفط) أقلامهم وصوَّبوها ضدَّ الأمّة، بدلاً مِنْ أنْ يصوِّبوها ضدّ المعتدين، وكتبوا نعيها (أعني الأمّة) بلغةٍ يشوبها الشماتة والتشفِّي، وأمعنوا في جلدها وتقريعها بلا رأفة؛ لأنَّها أمضت معظم القرن العشرين (ومطلع القرن الواحد والعشرين) في النضال مِنْ أجل أهدافها ومطالبها المشروعة ولم ترفع راية الاستسلام (رغم كلّ الهزائم والنكبات التي تعرَّضتْ لها)، وطالبوها، ضمناً أو صراحةً، بأنْ تطوي راية المقاومة وأنْ تنضوي في صفوف الخانعين المستسلمين.

ويفخر كاتب هذه السطور بأنَّه كان مِنْ أوائل الذين تصدّوا لتلك الحملة الضالَّة المضلِّلة الظالمة، التي اكتسبتْ زخماً كبيراً مِنْ هدير الدبَّابات والطائرات الحربيَّة الأميركيَّة، والتي أراد أصحابها منها أنْ تؤدِّي إلى دفع الإنسان العربيّ إلى هاوية اليأس والإحباط وأنْ تجعله يستسلم لثقافة الهزيمة والاستسلام (فالإنسان، بحسب همنغواي، «قد يُدمَّر، لكنَّه لا يُهزم»؛ لذلك، يُسلَّط عليه بعض أصحاب الأقلام لغرس أفكار الهزيمة ومشاعرها داخله).

في الأيَّام الأولى للاحتلال، كتبتُ في «الرأي» مقالاً فنَّدتُ فيه الدعاوى الباطلة لأولئك الكتّاب والمثقَّفين، وقلتُ إنَّ الشعب العراقيّ لن يكون أقلّ من الشعب الفيتناميّ أو من الشعب اللبنانيّ في رفضه للاحتلال ومقاومته له. وكان ذلك، آنذاك، يُعدُّ ضرباً من المكابرة والاستسلام للأوهام وأحلام اليقظة.

أولئك المثقَّفون، هم أنفسهم الذين يقفون الآن بحماس ضدَّ سوريَّة، وقد استقطبوا – مع الأسف – مجموعاتٍ أخرى من المثقَّفين لتشاركهم في موقفهم المخزي الذي لم يتغيَّر جوهره.. حتَّى وإنْ تغيَّرتْ مسمَّياته وعناوينه.

فهل هي مصادفة؟

اندلعت المقاومة العراقيَّة سريعاً، بعد ذلك – كما هو معروف – وكانت ضارية وواسعة ومتواصلة، وكبَّدت المحتلّين خسائر فادحة. فراح المحتلّون يفتِّشون عن وسائل ناجعة لمواجهتها، وما لبثوا أن استلّوا من الأرشيف الاستعماريّ البريطانيّ خطَّة «فرِّق تسد» سيِّئة الصيت وشرعوا باستخدامها. عندئذٍ، ظهر، فجأة، أسلوب التفجيرات العشوائيَّة الهمجيّ الذي يستهدف المدنيين الأبرياء (مرَّة شيعة، ومرَّةً سنَّة). وبدأت النبرة الطائفيَّة تتعالى وتتفشَّى، كما بدأ التناقض بين العراقيين يصبح هو السمة الغالبة على الصراع هناك بدلاً من التناقض مع المحتلّين.

ثمَّ استلَّ الأميركيون مِنْ أرشيفهم الاستعماريّ الخاصّ ما يُعرَف بـ«سيناريو السلفادور»، وجاءوا بمهندسه الأصليّ (جون نيغروبونتي) ووضعوه سفيراً لهم في بغداد ليشرف بنفسه على تنفيذه، وجعلوا روبرت ستيفن فورد ذراعاً أيمن له في تلك العمليَّة القذرة. وعندئذٍ، بدأتْ أعمال القتل الهمجيَّة ضدّ المدنيين العراقيين تزداد ضراوةً وتتَّسع؛ فسالتْ دماءٌ كثيرة، منذ ذاك، وجرى خرابٌ كبير.

وعندما شرع الأميركيون بالرحيل عن العراق في النهاية، أرسلوا روبرت ستيفن فورد إلى دمشق ليكون سفيراً لهم فيها. وقد كان ذلك قبل ثلاثة أشهر فقط مِنْ اندلاع الأحداث التي لا تزال تدمي جسد سوريَّة منذ حوالي أربع سنين.

فهل هي مصادفة؟

وأتذكَّر، هنا، أنَّ الدولة العربيَّة الوحيدة التي عارضت العدوان الأميركيّ على العراق بوضوح، هي سوريَّة؛ فعندما حاولت واشنطن، قبيل عدوانها ذاك، أنْ تحصل على تغطيةٍ له من «الشرعيَّة الدوليَّة»، ذهب وزير الخارجيَّة السوريّ فاروق الشرع (آنذاك) إلى نيويورك وشارك في جلسة مجلس الأمن الشهيرة الخاصَّة بهذا الموضوع، وقدَّم مرافعة مجيدة ضدَّ العدوان الأميركيّ المبيَّت، وقد أُشتُهِرَ في حينه وصفه للعدوان بأنَّه «سطو مسلَّح». ولمَنْ نسوا (أو يتناسون)، فقد حالت روسيا والصين، في ذلك الاجتماع، دون حصول الأميركيين على القرار المطلوب مِنْ «مجلس الأمن».

بعد وقوع الاحتلال على العراق، جاء كولن باول إلى دمشق، وقدَّم إملاءاته الشهيرة للرئيس السوريّ الدكتور بشَّار الأسد. وملخّصها: طردُ فصائل المقاومة الفلسطينيَّة مِنْ دمشق.. ومنها «حماس»، ووقف دعم حزب الله وإنهاء التحالف معه ومع إيران، وعقد اتِّفاق «سلام» مع «إسرائيل» بالشروط «الإسرائيليَّة» المجحفة.

رفض الأسد تلك الإملاءات، ثمَّ ألقى خطاباً علنيّاً سمَّى فيه ما وقع على العراق بأنَّه احتلال، وسمَّى التصدّي له بأنَّه مقاومة. (لم يفعل ذلك، حتَّى الآن، أيّ حاكم عربيّ آخر). ثمَّ شرعتْ سوريَّة بفتح حدودها لكلّ مَنْ يريد أنْ يقاوم في العراق. ومنذ ذاك، تمَّ استهدافها بقوَّة.. ابتداء من القانون الشهير الذي سنَّه الكونغرس الأميركيّ ضدَّها بعنوان «قانون معاقبة سوريَّة»، وقرار الكونغرس كذلك تخصيص عشرات الملايين من الدولارات لدعم ما أسماه «المعارضة السوريَّة».. وحتَّى الآن.

أمَّا العراق، فإنَّ سيول الدماء ما زالت تتدفَّق فيه.. بل إنَّها في ازدياد، والأمر نفسه ينطبق على اليمن، أيضاً، ومصر وليبيا.. وإلى حدٍّ ما لبنان. ولا أحد يعرف على مَنْ سيكون الدور في مقبل الأيَّام.

فهل هي مصادفة؟
ليس في هذا كلّه أيّ مصادفة.. اللهم إلا للذين سُلِبَتْ عقولهم وطُمِسَ على قلوبهم وأصبحوا يوجِّهون أنظارهم إلى حيث يريدهم الأعداء أنْ يوجِّهوها.