هاجس.. المفاعل الذري

عقب الزلزال العنيف, الذي يعتبر الاشد في تاريخ اليابان والذي تجاوزت قوته 9 درجات على مقياس ريختر, والتسونامي المدمر الذي ضرب السواحل الشمالية الشرقية الواقعة على المحيط الاطلسي قبل حوالي ثلاثة اعوام والذي نجم عنه خسائر فادحة في الارواح والممتلكات ودمار هائل في الاراضي المأهولة بالسكان والاراضي الزراعية وادى الى جرف قرى ومناطق سكنية عن بكرة ابيها وتسويتها بالارض, ونجم عنه تلوث بيئي جراء الاشعاعات الذرية المتسربة من محطة فوكوشيما الذرية المستخدمة في توليد الطاقة الكهربائية, عقب ذلك, ما زالت الجهود الحثيثة المبذولة مستمره وعلى اشدها من اجل احتواء الكارثة الكبرى والحد من آثارها على البيئة والسكان والسيطرة بشكل تام على المفاعلات الذرية المنصهرة وعلى الاشعاعات الخطيرة المتسربة منها.

آثار هذه الكارثة المأساوية ما زالت باقية الى يومنا هذا وستبقى الى فترة زمنية طويلة يقدرها الخبراء الى عقود متتالية من الزمن, قبل ان تدب الحياة ثانية في ارجاء واوصال المناطق المنكوبة وتعود الى حد قريب مما كانت عليه قبل الكارثة. لا يسعنا القول هنا الا: كان الله في عون اليابان واليابانيين, فهم لم يسلموا لا في الحرب ولا في السلم من المصائب الذرية ومن عواقبها.
لم يكن الزلزال ولا شدته الحدث الجلل في هذه الكارثة, فالمفاعلات الذرية والمباني الخاصة بها قادرة على الصمود امام الزلازل والهزات الارضية العنيفة, بل كان التسونامي الضخم الذي تبعه وضرب وغمر المحطة الذرية. الامر الذي أدى الى عدم قدرة الكوادر الفنية والمختصة على التعامل مع الازمة بشكل فوري وفقا لاجراءات الطوارئ المتبعة في مثل هذه الظروف. ما حدث لم يكن في الحسبان وفاق كل التوقعات, الامواج الناجمة عن التسونامي كانت عاتية وعلى ارتفاعات عالية تجاوزت ارتفاعات الحواجز والسواتر المقامة على ساحل المحيط بهدف حماية المحطة.
منذ ذلك الحين, اي منذ ما يزيد عن الثلاث سنوات, ما زالت جميع المحطات الذرية لتوليد الطاقة في اليابان متوقفة عن العمل ولاشعار آخر. ويطالب الرأي العام الياباني بوضع برنامج زمني محدد لتفكيك كافة هذه المحطات المنتشرة في جميع انحاء البلاد والتخلص منها الى غير رجعة. هذا ايضا ينسجم مع التوجه العام لدول العالم لعدم السماح بانشاء محطات ذرية جديدة وتوسيع استخدام الطاقة النظيفة والمتجددة من اجل تقليل الاعتماد على المحطات الحالية القائمة, والتخلص منها من خطرها تدريجيا.
قبل فترة وجيزة, ذهبت في رحلة خاصة الى محافظة ياماجاتا في الشمال الغربي من اليابان, وفي رحلة العودة الى طوكيو قررت سلوك الطريق الساحلي الواقع على الشمال الشرقي من المحيط الاطلسي مرورا بمحافظة فوكوشيما والذي اعتدت ان اسلكه قبل الكارثة الذرية في رحلات سابقة. عندما بدأت بالوصول الى المنطقة القريبة من محطة فوكوشيما الذرية وعلى بعد عشرات الكيلومترات منها, بدأت ملامح المنطقة التي اعتدت ان اشاهدها في السابق تتغير تدريجيا, فالمنطقة امست غير مأهولة بالسكان والفلاحين والمزراعين موحشة ويخيم عليها الحزن والأسى والعزلة, المنازل والمزارع والحدائق والمحلات التجارية والمصانع وحقول الأرز والمرافق العامة مهجورة تماما منذ ثلاثة اعوام. وقفت مذهولا امام حجم الكارثة والفاجعة التي المت بتلك المنطقة. لم استطع مواصلة رحلتي على الطريق الساحلي لانه مغلق امام العامة, فعدت ادراجي وسلكت طريق بديل.
في طريق ابتعادي عن محطة فوكوشيما, هجس في صدري ووقع في خلدي المفاعل الذري التي تتجه النية الى بنائه في اردننا الحبيب, وبدأت اتساءل في قرارة نفسي بعد هول وفضاعة وبشاعة ما رأيت بأم عيني, هل نحن فعلا بحاجة ماسة الى بناء مفاعل ذري من اجل توليد الطاقة؟ وهل نحن قادرون وجاهزون فنيا وتكنولوجيا ولدينا الخبرات الكافية للتعامل مع الحوادث الخطيرة والتسربات الاشعاعية حال حدوثها جراء كواراث طبيعية او اصطناعية لا سمح الله؟ وكيف سيمكننا التخلص من النفايات الذرية؟ واين سيتم تخزينها؟ وما هو الموقع الانسب لبنائه؟ الخ
هذه الاسئلة ما هي الا غيض من فيض من تلك التي اعتقد بانها تجول وتصول في خواطر وافكار الغالبية العظمى من المواطنين واصحاب القرار والمسؤولين في بلدنا العزيز. نحن نعي تماما بانه هنالك بدائل عديدة متوفرة وآمنة, فالاستفاده من الطاقة الشمسية على سبيل المثال لا الحصر هو احد الحلول الناجعة التي يجب التوجه اليها والتركيز عليها وتسخيرها بشكل واسع وتعميمها على كافة القطاعات.
على الجهات المعنية التشريعية والحكومية والخاصة المباشرة بوضع التشريعات والاستراتيجيات والآليات اللازمة للمضي قدما وبدون أي تأخير لتبني وتطبيق فكرة استخدام الطاقة النظيفة والمتجددة على أرض الواقع. هذا ايضا يجب ان يشمل تشجيع وتحفيز الشريحة العامة من المواطنين الى تبني هذه الفكرة الرائدة وحثهم على الاسراع في تنفيذها عن طريق تقديم بعض الامتيازات والحوافز والمكافآت. من يعلم, فقد نصل يوما ما الى مرحلة قريبة من الاكتفاء الذاتي في هذا المجال, وقد يصل الحال مع بعض المواطنين الى بيع الفائض من الطاقة الكهربائية الى جهات اخرى كشركة الكهرباء مثلا فتعم الفائدة ويزداد الخير, وبالتالي يتحقق الاكتفاء الذاتي والرافد المادي المتواضع على حد سواء.