اكذوبة الاقتصاد التركي


للإعلام قوة جبارة لا ينكرها أحد، وعندما يتم توظيفه بشكل صحيح فإنه يخدم القضية التي يتبناها بطريقة تعجز عنها الحجج والبراهين الموضوعية، وتأتي خطورة هذه القوة عندما يتم توظيفها في مجال التضليل والخداع، هذا ما يمكن أن يستنتجه المرء بسهولة إذا أتعب نفسه قليلاً من أجل الحقيقة وتخلى (ولو جزئياً) عن عواطفه التي تدفعه لرفض هذه الحقيقة.

قبل عدة أشهر تناقلت وسائل الإعلام العربية خبراً مفاده أن "تركيا سددت آخر قسط من ديونها الخارجية وأصبحت دولة بلا ديون، وذلك بفعل السياسة الأردوغانية الناجحة"، وبالطبع تعامل الكثيرون من العرب الهائمين بالسحر الأردوغاني مع الخبر كحقيقة لا تحتمل الشك أو الجدل، كيف لا وهو خبر يعزز إعجابهم بالبطل اردوغان الذي أصبح نموذجاً للقائد الصالح، والذي انتشل بلاده من أزمة اقتصادية خانقة إلى حالة اقتصادية يحلو للبعض أن يتخيلها بقوة الاقتصاديات الغربية.

أمام هذا الواقع قد يكون من المغامرة أن يتجرأ أحد ويقول أن هذا كله عبارة عن أكذوبة كبرى وليس أكثر من استخدام نفعي للإعلام من أجل تلميع صورة أردوغان وحزبه دون أي استناد إلى واقع حقيقي، ولكن الأرقام الموثقة ووجود من عنده استعداد لتحكيم العقل عند النظر في الأدلة يشجع على ضرورة بيان الحقائق حتى وأن كانت لا تعجب بعضاً أو كثيراً من الناس.

لنترك الآن الكلام المرسل ونتوجه فوراً إلى لغة الأرقام، وحتى أبتعد عن تشكيك من لن تعجبهم هذه الحقائق، فقد تجنبت الأرقام التي تنشرها المؤسسات الدولية واعتمدت على الأرقام الإقتصادية والمنشورة على موقع الحكومة التركية، وفي ما يلي رابط الموقع لمن أراد التوثق أو الاستزادة.
http://www.treasury.gov.tr/default.aspx?nsw=EilDPQez15w=-SgKWD+pQItw=&mid=695&cid=12&nm=765

إن أرقام المديونية الخارجية التركية تشير إلى أن هذه المديونية بلغت مع نهاية العام 2013 حوالي 388 مليار دولار، وفي الوقت الذي تداول فيه المبهورون بالنموذج التركي الأردوغاني خبر تخلص تركيا من ديونها للعالم الخارجي، كانت المديونية تزيد بحوالي 50 مليار دولار في العام 2013 لوحده، هذه هي الحقيقة فهل يوجد من هو مستعد لتقبلها؟

والآن لنعد إلى موضوع الكذب الذي تحول إلى حقيقة مطلقة في أذهان الكثيرين، وهو خبر تخلص تركيا من ديونها، لنبين كيف لعبت الآلة الإعلامية الأردوغانية لعبتها الذكية في تسويق الخبر، ان ما أعلن عنه أردوغان من تسديد لآخر قسط من الديون كان عبارة عن تسديد لآخر قسط من الديون المستحقة على تركيا لصالح صندوق النقد الدولي، ولا يشمل هذا ديون تركيا المستحقة عليها لصالح الحكومات الأجنبية والبنوك والمؤسسات المالية وغير المالية، كما لا يشمل سندات الاقتراض التي أصدرتها تركيا في الأسواق العالمية، وهكذا تم التلاعب بعقول الكثيرين من المهيئين لقبول فكرة المعجزة الأردوغانية.

لا أريد أن أطيل كثيراً في تفاصيل الإقتصاد التركي والذي يعاني الآن من مشاكل تزداد حدتها بمرور الوقت، ولكن يكفي أن أشير إلى أن النمو الذي حققه الاقتصاد التركي خلال السنوات السابقة كان بفعل سياسة الخصخصة التي دفعت بحكومة أردوغان لبيع كل شئ في تركيا، (وهو أمر درّ على تركيا لفترة محدودة استثمارات خارجية رفعت من نسب النمو ولكنه بالمقابل أمر سيدفع الإقتصاد التركي ثمنه قريباً)، هذا إضافة إلى سياسة الإقتراض المنفلتة التي اتبعتها حكومة أردوغان، ويكفي أن نقول أن دين تركيا الخارجي ارتفع في عهد أردوغان من 130 مليار دولار إلى 388 مليار دولار أي ما نسبته حوالي 300% ، وهذا هو ما يحلو للبعض أن يسميه معجزة الاقتصاد التركي.

رغم كل هذه الحقائق الدامغة والموثقة من الحكومة التركية نفسها، ألا أنني أدرك أن البعض لن يكون مستعداً لتقبل فكرة ممارسة أردوغان للكذب والخداع والتضليل بحق شعبه أولا وبحق الكثيرين من معجبيه في العالم العربي، وأعرف تماما أن من تباهى مئات المرات في كتاباته وفي مجالسه بأردوغان الذي خلص تركيا من ديونها، سيشعر بالحرج إن هو أقر بموثوقية الأرقام، ولكنني أراهن أيضا على أن هناك الكثيرون ممن يرجعون إلى الحق إذا أتاهم الدليل، بعيداً عن أسلوب الجدل من أجل الجدل وطريقة "عنزة ولو طارت".
د.عبد الرؤوف ربابعة
abdrf@yahoo.com