الاقتصاد و«السياسة» للعقد القادم

وجّه الملك الحكومة، برسم صورة للاقتصاد الوطني للسنوات العشر المقبلة، مع "خريطة طرق” مجدولة زمنياً للوصول إلى خط النهاية، واضعاً جملة من المعايير والأهداف والعلامات الاسترشادية، مشدداً على وجوب سلوك منهجية تشاورية – تشاركية مع مختلف الأطراف ذات الصلة، في القطاعات الثلاثة: الخاص والمدني والأهلي ... معظماً أهمية الاستناد إلى الخبرية المؤسساتية – التراكمية، حتى نبدو في كل مرة، وكأننا نبدأ من نقطة الصفر.
أحالتنا الرسالة الملكية المهمة، إلى واحدة من القضايا التي طالما شغلت اهتمام الطبقة السياسية الأردنية، وكانت موضوع بحث على هامش الأوراق النقاشية الملكية، والتي تتمثل بسؤال: كيف ستبدو صورة الأردن سياسياً بعد عشر سنوات كذلك... هل يمكن لنا أن نرسم ملامح هذه الصورة وما الذي ستكون عليه، وهل من خط نهاية وكيف نصل إليه، وأية جدولة زمنية لذلك؟
مثل هذه الأفكار والمقترحات، تصطدم أحياناً بقول البعض منّا إننا في إقليم متغير، تستغلق تطوراته المتسارعة والعاصفة، على مختلف "نظريات التخطيط”، مع أن ألف باء التخطيط، المتوسط والبعيد المدى، يلحظ قدراً من المرونة المُستوعبة للمستجدات و”الطوارئ”، مرونة لا تطيح بفكرة التخطيط، ولا تبقي الباب مفتوحاً "للقدرية” أو "اللا أدرية”.
وأحسب أن تصوراً لمستقبلنا الاقتصادي للسنوات العشر القادمة، لا يمكن أن يكتمل دون تصور موازٍ لمستقبلنا السياسي كذلك ... فلا بد من "خط نهاية” واضح المعالم لمشروعنا في الإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي ... لا بد من تصور عن برلماننا القادم وكيف سيتشكل وبأي نظام انتخابي ... لا بد من حديث عن "نظامنا الحزبي” الذي كلما اكثرنا الحديث عن ضرورة تقويته، كلما ازداد ضعفاً وتفككاً ... لا بد من حديث عن شكل "ملكيتنا الدستورية” التي تحدثت عنها الأوراق النقاشية الملكية، بعد أن "تسللت” إلى خطاب حركات وجماعات سياسية وحزبية أردنية.
لا أحد من الأردنيين (عاقل على الأقل) يمكن أن يقترح على الأردن والأردنيين، قفزات واسعة في "المجهول”، سيما في ضوء ما يشهده الإقليم من حولنا من فوضى وفلتان ... لا أحد عاقلاً، يريد المقامرة بأمن البلاد واستقرارها ... لا أحد يريد من الأردن أو له، دفع فواتير باهظة وأكلاف غير محتملة، للإصلاح والتغيير ... هذا أمر خارج السياق ... هذا ليس خياراً يمكن أخذه على محمل الجد.
لكن في المقابل، لا أحد يريد لـ”التدرج” و”الانتقال السلس والسلمي” أن يكون مفتوحاً على نهايات "مفتوحة” ... ومن الصعب على كل ذي بصر وبصيرة، أن يقبل بنظرية "التعارض الحتمي” بين الديمقراطية والاستقرار ... ومن حسن حظ الأردن، أنه من بين دول عربية قليلة، يمكن لها وفيها، الجمع بين حدَّي الديمقراطية والاستقرار، بخلاف الحال في كثير من الدول العربية، التي برهنت التطورات القائمة فيها أو تلك الكامنة تحت سطوحها الراكدة، على أن الديمقراطية والاستقرار، نقيضان لن يلتقيا، حتى إشعار آخر.
المرتكزات الاقتصادية التي حددتها الرسالة الملكية للحكومة، يصعب ترجمتها والتيقن من تحقيق مراميها، مالم نجرؤ على دفع مسار الإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي، بخطوات ملموسة للأمام، بدءاً بقانوني الأحزاب والانتخاب التي تقول الحكومة إنها ستدفع بهما للبرلمان، وصولاً لتعزيز منظمة الحقوق والحريات، وانتهاء بـ "دسترة” قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية، وغير ما إلى ذلك من شعارات ومطالب، هيمنت على الحراك السياسي والشعبي الأردني، لسنوات عديدة خلت.
وإذا كانت ثمة خلاصات ودروس من تجربة الإصلاح والتصحيح الاقتصاديين في الأردن، منذ 1989 وحتى الأمس القريب، فهي تتلخص في "نظرية تلازم مساري الإصلاح الاقتصادي والسياسي” ... فقد جربنا السير على مسار واحد، الإصلاح الاقتصادي، وكانت النتيجة، طوفاناً من "القضايا” و”التحقيقات” و”المظلمات” التي لاحقت مختلف المشاريع الكبرى المصاحبة لذلك المسار، وتحوّل شعار "محاربة الفساد”، إلى "أيقونة” الحراكات الشبابية والشعبية، فهل سنعيد انتاج التجربة ذاتها، أم أننا سنسير على خطين متوازيين هذه المرة؟
ولعل من نافلة القول، التذكير بأن واحدا من الأسباب العميقة التي أنتجت ثورات الربيع العربي وانتفاضاته، يكمن في هذه النقطة بالذات، فمختلف الدول العربية، جرّبت السير على خط الإصلاح الاقتصادي المنبتّ عن الإصلاح السياسي، وانصاعت في مجموعها للوصفات الجاهزة لصندوق النقد الدولي، فماذا كانت النتيجة؟
نحن بحاجة لتخطيط متوسط وبعيد المدى لشؤون حياتنا الاقتصادية والسياسية معاً... وقد حملت الرسالة الملكية للحكومة توجيهاً بالملف الاقتصادي، وسبق للأوراق النقاشية أن حملت "عناصر” أساسية لأي تخطيط سياسي متوسط المدى للإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي، وعلى الحكومة ، أن تبدأ الآن، ومن هنا، وعبر ورشة حوار وطني جامع وملزم، لا حوار شكلي، برتوكولي، ديكوري، يبعث على الإحباط بدل أن يضيء مشاعل الأمل والتفاؤل بالمستقبل الذي يستحقه الأردنيون والأردنيات جميعاً ... ورشة حوار تدفع باتجاه بناء أوسع التوافقات الوطنية للخروج من استعصاءاتنا السياسية والاقتصادية ... ورشة حوار ترسم صورة الأردن كما نشتهيه بعد عشرية من السنين.