نخب مأزومة وأزمة نخب
لا أستخدم مفهوم النخبة هنا بمفهوم التميز، وما يسبقه من أثر الهالة، والذي يجرنا إلى جدل بيزنطي بين الـ"أنا" والـ"هو"، وبالتالي نضيع نحن في حرب المفردات. وإنما أراه (النخبة) بالمفهوم الإجرائي الذي يمكننا من تجاوز وصف الألم، إلى تحديد سببه، لنتمكن من وصف العلاج للحالة التي اخترتها عنوانا لما أعرضه الآن، والتي تبدأ وتنتهي بالأفراد الذين سبق أن اضطلعوا بمهام قيادية، أو المتبوئون حاليا لما اصطلح عليه بـ"المناصب العليا"، وتحديدا في المجال السياسي، مع إمكانية تعميمها على المجالات العامة الأخرى.
المتابع للشأن العام يلحظ تراجعا في التقييم الشامل لأداء النخبة. والراصد يقر بذلك بشكل صريح بشأن الفئة السياسية منها. ولم يعد من المفاجئ أن تصدر تصريحات نخبوية، أو مواقف غير مألوفة، تخلو من الانضباط ضمن سياق ومنطق في وسائل الإعلام. ويزداد أثر هذه التعبيرات كلما كانت تقترب من قضايا ذات بعد اجتماعي، بما يدخلنا في مساحات إطفاء نيران جانبية على حساب الوقت الضيق الذي نملكه لتوجيه تركيزنا نحو قضايا مفصلية، بروح الفريق.
وتتجلى حالات أزمة النخبة في العديد من المظاهر، مثل الأسلوب أو الطريقة اللذين يتم بهما تقديم القضايا الداخلية للمواطنين. وتتجلى كذلك على صعيد النزعة المؤسسية وضعف القدرة على العمل الجماعي، وضعف الوعي أو الإحاطة بحيثيات الموضوع، لتصل ذروتها أحيانا في تعبيرات بدائية غير ناضجة، تنحدر إلى مستوى متدن من الطرح والحوار.
تتنوع النخبة المأزومة؛ فبعضها طارئ على العمل العام تعوزه الخبرة والدراية. إذ إن العمل السياسي يحتاج إلى ثلاثية التدريب والتدرج والخبرة، وهذا ما نرصد تراجع مخزون النخبة (عموماً) منه. وهناك صنف ممن غادروا السرب مبكرا، فوجد نفسه أمام أزمة داخلية، يعبر عنها بمشاغبات أقرب إلى سلوكيات لفت الانتباه، على أمل العودة إلى الموقع مرة أخرى.
وتُضاف إلى ما سبق مجموعة سقطت بـ"البرشوت" على الموقع العام، نتيجة توفر ظروف اجتماعية واقتصادية، بلا أي دراية مسبقة بالشأن العام، محولا مواقفه التي يتبناها إلى جزء من تحقيق المكاسب الشخصية والاقتصادية؛ وصولا إلى نخبة موجودة في السلطة ليست سياسية، ولا تتمتع برؤية مشتركة مع أقرانها، وتعاني من ضعف في تفهم رسالة الدولة ومصالحها، ولا يشكل الموقع العام لها أكثر من وظيفة ومكانة مستقبلية. ونختم ببقايا الماضي، وهي فئة ارتهن موقفها باعتبارات خارج الوطن؛ سواء أكانت بسبب مصالح شخصية أم أسس أيديولوجية أم سياسية، مرتبطة بما سلف أو بالإقليم.
خلاصة القول؛ إننا نعاني في مؤسساتنا المختلفة من أزمة نخبة. قد يكون أحد أسبابها أننا نمر في مرحلة من التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تؤثر في آلية إنتاج النخب وطبيعتها. وقد يكون السبب الآخر هو عدم قدرة المؤسسات التقليدية، الرسمية والحزبية، على إنتاج نخب جديدة. لكن الدولة يجب ألا تترك مسألة تفريخ هذه الفئة للمجتمع، بل يجب أن تكون لديها آلياتها الواضحة ومعاييرها الشفافة في إنتاج النخب واختيارها، ضمن رؤية الكفاءة القادرة الملتزمة بالعمل بما أوكل إليها من مهمات وطنية في ظرف دقيق، لم يعد لأصحاب الأجندات الشخصية فيه إلا الخضوع لسلطة الوطن