"مستورة"!

أعجب، دوما، من "عبد الستار"، الذي ما يزال إلى الآن، يجيب كل من يسأله عن أحواله، بقوله: "مستورة"!

والحال أنني أعرف "عبد الستار" منذ سنوات بعيدة، وأعرف علاقته "الاستراتيجية" مع الفقر المدقع، وسوء الطالع الذي يلازمه كظله! 

وأعرف "الخشة" التي تضم "عبد الستار" وأسرته، المؤلفة من رهط من الأفواه الجائعة، وأعرف أن دخله المتواضع لا يكفي لتغطية أدنى متطلبات معيشته، ومع ذلك فإن عبارة "مستورة"، لم تفارق شفتيه مطلقا!

وكثيرا ما كنت أستفز "عبد الستار"، سائلا إياه عن معنى "المستورة" التي يتشدق بها في إجاباته، وسط هذا الخضم الهائل من "الانكشاف" المعيشي الذي يحيله إلى كتلة من العري الفاضح! فيصمت ويهز رأسه، كمن يرغب بـ"ستر" الإجابة في كبده المفتت!

زمان، كان عبد الستار "مستورا"، حقا، كان يغلق عليه باب بيته، بعد أن يكون قد دفع 23 دينارا أجرة المنزل، و3 دنانير فاتورة الكهرباء، ونصف دينار بدل المياه غير المستهلكة، ودينارا واحدا لقاء تلفاز لا يقتنيه، ودينارا آخر لقاء "خدمات" القمامة، علما أن "عبد الستار" لم يكن يخرج من بيته أي نوع من أنواع القمامة، مطلقا، لأنه لا يملك فوائض طعام زائدة عن الحاجة، ولا حتى من عظام "الدجاجة الشهرية"، أو من أوقية اللحم "الموسمية"، فكل الطعام مستهلك، حتى آخر حبة رز في بيته الصغير!

كانت "الستيرة"، في حياة "عبد الستار"، لا تتعدى تذكرة الباص، ورغيف الخبز، وكيلو الملوخية، و"قلاية" البندورة، و"الزنوبة"، وإبريق الوضوء، وصحني الزيت والزعتر.. كان مستعدا أن يتبختر كالطاووس إذا وجد في جيبه دينارا إضافيا خارج بنود ميزانية البيت، بل وأقل من ذلك، إذا كان الفائض كفيلا بشراء "باكيت راحة حلقوم" لصغاره، الذين ينتظرون عودته ساعات، مطلع كل شهر، على باب البيت، للانقضاض على "الباكيت".

 

غير أن الأهم من كل ذلك، أن عبد الستار كان يبدو واثقا من نفسه حين يجيب، باعتداد بالغ، كل من يسأله عن الأحوال، بقوله "مستورة".. لأنه كان يعرف ما "يستره"، حقا: معطف "البالة"، وسقف "الزينكو"، ووظيفة حكومية تضفي عليه مهابة كبيرة في الحارة، كونها "نهاية الأرب في حياة العرب"، ووجاهة مستمدة من شهادة التوجيهي التي لم يكن يحملها سوى اثنين أو ثلاثة من شباب الحي، وكلمة مسموعة في المنازعات والمناوشات!

كانت "الستيرة" محددة الملامح في حياة عبد الستار، لم يكن ثمة احتمال للخطأ في تعريفها، فـ"الستيرة"، تعني "ستر" الغلاف الجوي المحيط بأبعاد حياة "عبد الستار"، برمته، حيث لا مكان لأدنى انكشاف يطأطئ الرأس أمام أهالي الحارة، فالشهر مغطى بالراتب المحدود، والأولاد "مستورون" بلقمة الطعام البسيطة، وبـ"الصندل" الشتوي، وحقائب القماش، التي خاطتها زوجة عبد الستار من أكياس طحين "زيرو"، لزوم كتب الأولاد ودفاترهم، ومذياع متهالك، يتجمهر عليه أهالي الحارة عصرا لسماع أم كلثوم، و"حرام" مرقع صالح لاستخدامه ستارة لنافذة بلا زجاج..!

كانت "ستيرة" عبد الستار تمضي على سكة ثابتة، لا مجال فيها لانحراف أو خطأ.. حتى بدأ "غلافه الجوي" بالاضمحلال رويدا رويدا، مع أمواج الغلاء المتسارعة، وانقلاب المعايير الاجتماعية، وتطورات العصر الجديد، حتى "انكشف" الغطاء، تماما، عن عبد الستار، فأصبح منكس الرأس، مثقلا بالهموم، ينظر إلى بيته المتهالك بقلق، وإلى راتبه بأسى... لكنه ظل يردد "مستورة"!

وأخيرا، وفي يوم شديد المطر والبرد، رأيت عبد الستار، يخوض في برك الوحل والطين، مرتجفا، شبه عار، فاتجهت إليه وسألته، للمرة الأخيرة: "يا عبد الستار كيف الحال؟"

بكى عبد الستار، وهو يحاول "ستر" عورته بيديه، وأجاب "مستورة"!