لاءات النسور بعد لاءات الخرطوم.. دلالاتها

في التاسع والعشرين من آب من عام 1967 انعقد مؤتمر القمة العربي الرابع في الخرطوم والذي عرف بمؤتمر اللاءات الثلاث حيث خرجت القمة بلاءات ثلاثة هي: (لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض).
أما ما استدعى هذه الذكرى الى الذاكرة قبل موعدها فهي لاءات رئيس الوزراء عبد الله النسور ردا على مطلب النواب بعد حادثة مقتل القاضي زعيتر، وهي: لا لطرد السفير الإسرائيلي، لا لسحب السفير الأردني في تل أبيب، ولا لإلغاء معاهدة وادي عربة. هذه اللاءات، وان صدرت منه في مناسبة محددة، الا أنها في جوهرها وحقيقتها تعكس الثابت الذي بات الأردن يتمسك به في علاقته مع الكيان الصهيوني وهي التمسك بمعاهدة وادي عربة بأي ثمن.
لقد انتهت حرب الـ67 باستيلاء العدو الصهيوني على قطاع غزة، والضفة الغربية، وسيناء، وهضبة الجولان في أكبر عملية سطو مسلح في القرن العشرين، وكانت عين «اسرائيل» على ثلاثة أمور: أولها، اعتراف العرب بدولة إسرائيل، وثانيها، توقيع معاهدة صلح معها، وثالثها، ضم القدس الشرقية مع القدس الغربية لتصبح عاصمة أبدية موحدة «لإسرائيل» مع التأكيد على أن جميع المناطق التي احتلتها قابلة للتفاوض مع البلدان العربية باستثناء القدس. لذا جعل بن غوريون الاعتراف والصلح شرطا لأي مفاوضات يمكن أن تبدأ بين «إسرائيل» والعرب على أي من الأراضي التي استولت عليها في الحرب، لأن هدفها من احتلال تلك الأراضي كان مبادلتها بالاعتراف، فقد كانت تعتبر أن اعتراف العرب بها في حد ذاته في تلك المرحلة إنجاز تاريخي. وقد قدمنا لها ما ارادت بأكثر مما حلمت، فمن بعد ان كانت في تفكيرنا وسلوكنا دولة مغتصبة، فرضت علينا كدولة شقيقة من غير المسموح تعكير صفو علاقاتنا معها حتى وإن لم نكن نحن سبب هذا التعكير. ويا ليتها رضيت فهي كجهنم، دائما (تميز من الغيظ) وتردد: «هل من مزيد».
أما القدس، فقد قامت بضمها وتهويدها، وهي اليوم تدعو الى «استعادة» ما يسمى بـ»السيادة الاسرائيلية» على الحرم القدسي الشريف والمسجد الأقصى، رافضة أن تكون السيادة للأردن «الهاشمية» وسيتحقق لها ما تريد.
في زمن لاءات الخرطوم كانت إسرائيل هي العدو، وكان الصراع معها صراع وجود لا حدود، كان مجرد التفكير في التفاوض معها يعتبر خيانة، فقد كانت فلسطين «حقا مسلوبا» وهو حق يأبى النسيان مهما تفرعت العناوين، وكان استرداد هذا الحق كاملا هدفا استراتيجيا لا يتحقق الا بالكفاح المسلح، واسترداده واجب الفلسطينيين العرب والمسلمين مجتمعين لأنه قبل ان يكون واجبا وطنيا وقوميا، هو حماية للأمن القومي العربي، «فإسرائيل» لن تكتفي بفلسطين وإنما ستتمدد كلما سمح لها ضعفنا بذلك. وكانت ترجمة كل تلك الحقائق في لاءات الخرطوم الثلاث.
أما في زمن لاءات النسور الثلاث، فقد صار العدو الصهيوني دولة صديقة بيننا وبينها معاهدة نفديها بأرواح المواطنين، وإن اضطرنا الواقع، فكلمة اعتذار تكفي لنقبل العزاء في مواطن اردني بدلا من ألا نقبل عزاءه إلا بعد الثأر لدمه.
سقوط فلسطين، والسكوت عن اغتصابها، والقبول بمغتصبها في العائلة العربية والإسلامية أرخ لمرحلة تاريخية جديدة يمكن ان يكون مقبولا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فالدقامسة لا بد ان يتعفن في وطنه لأن الشقيقة تريد ذلك، وزعيتر كان لا بد ان يموت لأنه أخاف أبناء الشقيقة.
لقد تم نسيان لاءات الخرطوم لتحل محلها لاءات النسور وما تعكسه من واقع مر، وصار واقع فلسطين والعالم العربي والإسلامي بأكمله تحكيه قصة من التراث الشعبي العربي عنوانها «الحمار وأهل القرية».
تبدأ الحكاية بدخول حمار الى مزرعة رجل. بدأ الحمار في أكل زرعه الذي تعب في حرثه وبذره وسقيه، فأسرع الرجل إلى البيت، وصنع لافتة كتب عليها (يا حمار أخرج من مزرعتي)، ثم ذهب إلى حيث الحمار ووقف رافعًا اللافتة منذ الصباح الباكر حتى غروب الشمس.. ولكن الحمار لم يخرج.
فكر الرجل: (ربما لم يفهم الحمار ما كتبتُ على اللوحة)، فصنع عددًا كبيرًا من اللافتات مكتوبا عليها (أخرج يا حمار من المزرعة (... ) الموت للحمير)، ثم استنفر أولاده وجيرانه وأهل القرية وحملهم اللافتات. تحلق الجميع حول الحقل الذي فيه الحمار وبدأوا يهتفون: (أخرج يا حمار. أخرج أحسن لك). ولكن الحمار يأكل ولا يهتم بما يحدث حوله.
باءت كل محاولات الرجل في إخراج الحمار بالطرق السلمية بالفشل واستمر الحمار يأكل في المزرعة بلا مبالاة، فنادى الرجل: (أرسلوا وفدًا ليتفاوض مع الحمار). قال الوفد للحمار: (صاحب المزرعة يريدك أن تخرج، وهو صاحب الحق وعليك أن تخرج). لكن الحمار نظر إليهم، ثم عاود الأكل دون أن يكترث بهم. بعد عدة محاولات أرسل الرجل وسيطا آخر قال للحمار: (صاحب المزرعة مستعد للتنازل لك عن بعض من مساحته)، لكن الحمار يأكل ولا يرد، فتابع الوسيط: (ثلثه)، ولكن الحمار لا يرد.. (نصفه) والحمار لا يرد، فما كان من الوسيط الا أن قال: (حدد المساحة التي تريدها ولكن لا تتجاوزه).
عندها رفع الحمار رأسه، نظر إلى الجمع وفكر: (لم أرَ في حياتي أطيب من أهل هذه القرية يدعوني آكل من مزارعهم ولا يطردوني ولا يضربوني كما يفعل الناس في القرى الأخرى).
فرح الناس فقد وافق الحمار أخيرًا. سيج الرجل مزرعته وقسمها نصفين، وترك للحمار النصف الذي هو واقف فيه ليفاجأ في صباح اليوم التالي بأن الحمار ترك نصيبه ودخل في نصيب صاحب المزرعة وأخذ يأكل. فرجع أخونا مرة أخرى إلى اللوحات، والمظاهرات ولكن لا فائدة.
ثم، وأمام دهشة جميع الحاضرين، خرج من بين صفوف المشاركين في المحاولات اليائسة لإخراج الحمار المحتل، خرج طفل صغير، دخل إلى الحقل وتقدم إلى الحمار ثم ضربه بعصا صغيرة على قفاه فإذا به يركض خارج الحقل.
لقد أثبتت الأيام أننا يمكن أن نحقق انتصارا مهما على هذا الكيان المغتصب بصدق الإرادة والعزيمة، وأن نهدم خرافة كان يرددها بأن (جيشه لا يقهر) ورددها من بعده ضعفاء البصر والبصيرة. لقد أظهرنا صمودا وحققنا انتصارا مهما في حربين من أشرس الحروب، وتمكنت المقاومة في لبنان في 2006، وفي غزة في 2008، وهم فئة قليلة أعدوا لهذا الجيش ما استطاعوا من قوة ثم نصروا الله فنصرهم.
إسرائيل لص، واللص يقاد بالأغلال والقيود، ولا يقر له بحقه فيما سرق مهما كانت بلطجته، ولا يفاوض على ما سرقه، بل يلاحق حتى يسلم ما سرق ثم يعاقب بقطع يده حتى لا تمتد الى حق آخر.
إن العودة الى لاءات الخرطوم هي العصا التي ستخرج الحمار من المزرعة وليس الأرض مقابل السلام ولا السلام مقابل السلام والإستسلام.