التفكير الجمعي ومعارضة السلطة

 

التفكير الجمعي تفكير ينطلق من قاعدة الإحساس بضرورة الإنتماء إلى المجموعة والمحافظة عليها والدفاع عنها، ويحتّم هذا الإحساس على صاحبه بأن يتبنى كل ما تؤمن به المجموعة بشكل تلقائي دون ان يكون مستعدا للتفكير المستقل، حيث ان التفكير المستقل قد يدفعه لتبني أفكار أو آراء خارج إطار المقبول من قبل المجموعة، وهذا بحد ذاته يشكل مصدر خوف يدفع الشخص للانخراط في التفكير الجمعي مدمرا لديه استعداده وقدرته على التفكير المستقل.

من مظاهر التفكير الجمعي عدم الإهتمام بمفهومي المنطق والموضوعية، فما يخدم توجهات المجموعة هو العامل المقدم على كل العوامل، وهو المعيار والبوصلة التي توجه التفكير، وهنا يكمن الضرر والخطر أيضا.

ولتوضيح آليات التفكير الجمعي دعونا نتناول موضوع علاقة الشعب بالسلطة، فمن المعروف أن الشعوب تميل عادة إلى معاداة السلطة بشكل فطري، وهذا شيء طبيعي، بل هو صحي في كثير من الأحيان، وذلك لإبقاء هذه السلطة دائما تحت ضغط قوي يدفعها للإنجاز والالتزام بالمصلحة العامة، وفي كثير من البلاد التي لا تتمتع بقدر معقول من الديموقراطية الحقيقية التي تمكنها من محاسبة السلطة وتغييرها إن لزم الأمر، فإن حالة العداء هذه تكون مطلقة ورافضة لكل ما يصدر عن السلطة، ويعمل التفكير الجمعي هنا على دفع الأفراد لتبني وتصديق أي خبر أو معلومة من شأنها أن تدين السلطة دون أن يكون هناك استعداد لاستخدام معيار الموضوعية في النظر إلى الخبر أو المعلومة.

وكمثال على ذلك لنفترض جدلا وجود حالة قام بها أحد مثيري الشغب والمشاكل في المجتمع بالاعتداء على رجال الشرطة، مما دفعهم للرد عليه بقوة كانت ضرورية لوقف اعتداءه عليهم ومن ثم اعتقاله، أمام هذه الحالة، وفي ظل قناعة جمعية بعدم نزاهة السلطة، فإنه يمكن لأي شخص أن يطلق خبرا مفاده أن رجال الشرطة يعتدون على مواطن بريء بسبب محاولته التعبير السلمي عن آراءه مثلا. إن مثل هذا الخبر يكون مهيئا بشكل جيد للانتشار وتكون الرواية التي يتضمنها قابلة للتصديق على نطاق مجتمعي واسع جدا، وذلك بسبب آليات التفكير الجمعي التي تدفع الجموع الغفيرة فورا إلى تبني هذه الرواية والمساهمة مع المجتمع في الشجب والاستنكار والإدانة لفعل السلطة، وذلك انطلاقا من مسلمة مفادها أن السلطة دائما على خطأ.

في هذا المثال ايضا لنفترض قيام أحد أصحاب التفكير المستقل بالاستقصاء الموضوعي حول الحادثة ليكتشف حقيقة الموقف ولا يجد فيه أي إدانة للسلطة، وهنا سيجد نفسه أمام خيارين أحدهما السكوت عما توصل إليه وعدم التعبير عن رأيه الذي سيكون مخالفا للمجموع، وبذلك فإن آليات التفكير الجمعي تحقق مبتغاها من خلال تحييد الفرد المخالف ودفعه للإختباء وراء موقف سلبي لا يمكن أن يخدم الحقيقة.


أما الخيار الثاني فسيكون التعبير عن وجهة النظر وإن كانت مخالفة للجموع، وهنا فإن آليات التفكير الجمعي ستقوم بالمقاومة من خلال تكنيكات الدفاع والهجوم لقمع الرأي المخالف ودفعه للسكوت والإذعان للرأي السائد، وتعتمد هذه التكنيكات على قوتين أساسيتين أحداهما للدفاع والأخرى للهجوم، وتستخدم قوة الدفاع من خلال مهارة تجنب الخضوع لمنطق النقاش وتمييع أي محاولة للحديث بموضوعية حول الحالة التي يدور الحديث عنها، أما قوة الهجوم فيتم استخدامها من خلال توجيه اتهام فوري للشخص المخالف بمداهنة السلطة أو نفاقها ويكون هذا الإتهام قابل للتصديق من قبل أفراد التفكير الجمعي كون هذا النوع من التفكير لا يساعدهم على النظر الموضوعي، الأمر الذي يدفهم للاعتماد على تقييمات وتصنيفات يتم تبنيها بخصوص ذات الشخص المخالف وليس حول موضوع الخلاف بحد ذاته.

إن التفكير الجمعي يعتبر أحد أمراض الجماعة البشرية، وهو حتمية مجتمعية لا يمكن التخلص منها، إلا أن شدته تختلف من مجتمع إلى آخر تبعا لمستوى الثقافة العامة ومستوى الحرية الحقيقي الذي تسمح به قيم المجتمع، لذا فإنه لا بد من العمل على تشجيع الأفراد على التفكير المستقل وتشجيع المجتمع على التسامح مع المخالفين، وذلك لتقليل الآثار السلبية للتفكير الجمعي والتي تسبب المزيد من الانغلاق في المجتمع وتحرمه من فرص التطور التي لا يمكن أن يصنعها إلا أصحاب التفكير المستقل.
د. عبد الرؤوف ربابعة
abdrf@yahoo.com