الأزمة الأكرانية.. تداعياتها في المنطقة العربية

من المسلم به، الآن، أن الأزمة الأكرانية، كواحدة من أزمات عدة نشبت بين روسيا والغرب، منذ بداية القرن، كانت نتيجة حتمية لمحاولات روسيا رسم خطوط عريضة واضحة حول حدود مصالحها ومناطق نفوذها التي ينبغي للدول الأخرى في النظام الدولي متعدد القطبية مراعاتها واحترامها.

فقد كان سقوط الاتحاد السوفييتي، في الحرب الباردة، قد أخلى الساحة، ولعشر سنوات طوال، حاولت الولايات المتحدة، أثناءها، محاصرة روسيا وتجريدها من مناطق نفوذها، بل وتناست فيها مصالح روسيا في العالم وخاصة في منطقتنا العربية.

كان ذلك واضحا حين قامت الدول الأوروبية بفرض مناطق حظر جوي على ليبيا أثناء ثورة 2011. لم يأخذ الغرب، في قرارهم بعين الاعتبار، مصالح روسيا في ليبيا ما بعد القذافي. لم يستشيروها أو يطلبوا رأيها حول ما يمس تلك المصالح، أو أي إجراءات، يتفق عليها، للمحافظة على تلك المصالح مستقبلا.

فمن المعلوم أن روسيا كانت قد عقدت في سنة 2008 عدة اتفاقيات تسليحية وصناعية واستخراجية، وخاصة في مجال الغاز، تقوم بها شركات روسية، بقيمة عدة مليارات من الدولارات تكون بديلا لديون روسية قديمة بقيمة 7 مليارات دولار ألغتها الأخيرة لصالح تمتين العلاقات مع ليبيا، وعلى الشكل المذكور.

أما مصالح روسيا في سورية، فأكثر تعقيدا. فقد ألغت روسيا من ديونها على سورية 9 مليارات دولار، على أن تقوم الأخيرة بتسديد أربعة مليارات متبقية، أخرى، يسدد جزء منها "1.5 مليار دولار" على شكل أقساط على مدى عشرين عاما؛ أما باقي الدين "2.5مليار دولار" فيودع في البنوك السورية كأرصدة مالية لصالح شركات روسية تعمل في مجالات الاستثمار الصناعي والسياحي، مما جعل تلك المصالح واسعة ومتشعبة، وواعدة.

ومن المعروف أن قوى المعارضة السورية التي تحارب نظام الأسد، ومنها، بشكل خاص، منظمة داعش ذات الصلات العملياتية مع منظمات قفقازية إسلاموية متشددة، تهدد الأمن الروسي في الشيشان- إنغوش، في القفقاز، بالإضافة لتهديد المدن الروسية الكبرى مثل موسكو، كما حدث مؤخرا وما زال يحدث.

لذلك كان من الطبيعي أن نرى موقفا روسيا متشددا في دعمه لنظام بشار الأسد، وخاصة في نزع المبررات من سياسات الإدارة الأمريكية الديمقراطية الهجومية عليه وعلى نظامه، وذلك في:

أولا، التخويف من المعارضة السورية، ومنظمة "داعش" بشكل خاص، وهي التابعة لمنظمة القاعدة، بالإضافة لجبهة النصرة بكل ما تمثله من رصيد" جهادي" لمنظمة القاعدة. وتحسب داعش أن الساحتين الأمريكية والروسية من الساحات المفتوحة لها.

ثانيا. العمل على طمأنة الإدارة الأمريكية بالوصول لاتفاق بنزع سلاح سورية الكيميائي، وقد نجحت روسيا بذلك أيما نجاح، فلم تعد إدارة الرئيس أوباما بقادرة على الحصول على تفويض كامل للتدخل ضد نظام الأسد.

كما أن روسيا قد وجدت دعما وتعاونا من الصين داخل مجلس الأمن وخارجه، فالصين هي الأخرى تخشى من امتدادات حركة القاعدة الجهادية ضدها في منطقة الويقور.

هذا الموقف الروسي في الدفاع عن مصالح روسيا داخل المنطقة العربية، هل بالمستطاع تطويعه لصالح روسيا والشعوب العربية المنكوبة في منطقة بلاد الشام على الأقل؟ هناك مدخلان لتصحيح الصورة وإعادة الاصطفاف بما يحقق هذا الهدف.

فقد أعلنت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين أن المنظمات الإسلاموية وخاصة داعش التي تحتفظ بقواعدها الدائمة قريبا من الحدود الروسية "في منطقة المثلث، حيث تلتقي حدود العراق وتركيا وإيران،" هي منظمات إرهابية ستتعامل معها تلك الدول على هذا الأساس. وهنا تلتقي الدول العربية مع روسيا في لقاء جديد وعلى أسس جديدة.

كما شهدت العلاقات العربية الروسية تقاربا حقيقيا حين التقت مصر ثورة تموز/2014 وروسيا بوتين. وقد حملت مصر في تحركها، نحو موسكو، وزنا كبيرا مضافا تمثل في تحالفها مع المملكة العربية السعودية بما يذكر بتحالف جيوسياسي مشابه حدث سنة1973. ثم ازداد هذا التحالف وثوقا باتفاق المتحالفين على موقف موحد إزاء المنظمات الإسلاموية في المنطقة.

هذه التطورات الجديدة على الساحة تجعل الدول العربية أقرب إلى روسيا من ذي قبل وأقدر على التعامل معها، فيما يتعلق بسورية سواء في علاقات روسيا مع الولايات المتحدة داخل مجلس الأمن؛ أم في جنيف؛ أم في العمل المباشر مع المعارضة السورية المعتدلة- الجيش الحر- تحديدا.

وتستطيع الدول العربية تعزيز اللقاء مع روسيا بدفع المعارضة السورية للتوصل لتفاهمات محددة مع روسيا حول ضمان أي نظام وريث لنظام الأسد، تنجح في تشكيله، لمصالح الأولى وفقا لاتفاقات 2008 بينهما، كما ذكر أعلاه.

مثل هذا النهج سوف يشجع روسيا على إعادة النظر في علاقاتها مع العرب، وخاصة إذا كان هناك استعداد عربي للمساعدة في التوصل لتسوية مرضية لروسيا في علاقاتها مع ليبيا حول المسائل كافة التي بقيت من غير تسوية حتى اليوم.